أغنياء العالم يزيدون فاتورة الكربون على كوكب الأرض
شكل أزمة فيروس كورونا التي تعيشها البشرية منذ بداية العام الجاري، فترة استثنائية غير مسبوقة، منذ الاضطرابات التي مرت بها جراء تفشي فيروس الانفلونزا الإسبانية في بداية القرن العشرين، والذي حصد أرواح ملايين البشر.
وتجمع مراكز أبحاث مختصة وخبراء تغير المناخ والبيئة، وعلماء المستقبليات، أن الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية الحالية المرافقة لانتشار الفيروس، تشكل تمهيدا للمخاطر المحدقة بكوكبنا نتيجة تغير المناخ وازدياد انبعاثات الغازات الملوثة، فالأزمة الحالية أحادية البعد مركزها الفيروس شاغل الدنيا، بالمقابل يشكل تحدي المناخ تهديداً متعدد الأبعاد يصعب حصر أبعاده و تأثيراته ونتائجة حتى اليوم.
وحتى الآن يصعب حصر الخسائر والتبعات الاقتصادية لأزمة كورونا، بسبب استمرارها وعدم اليقين بقرب موعد انتهائها، كما برهنت الأزمة الحالية لأول مرة بأن الأنشطة البشرية، هي المسؤولة عن الارتفاع الكبير لانبعاثات الغازات السامة في الجو، وتبعياتها على الإنسان والطبيعة، ففور إعلان الحجر الصحي في فرنسا في آذار الفائت، والتباطئ الكبير في عجلة الحياة اليومية لسكان العاصمة باريس، وفي الأيام القليلة التالية، انخفضت نسبة غاز ثاني أوكسيد الكربون بما يزيد عن 70% في شوارع المدينة، جراء توقف أكثر من 80% من وسائط النقل عن العمل.
هذه الأرقام ما لبثت أن عادت لسابق عهدها عندما تم الإعلان عن فك الحجر الصحي.
سيناريوهات متعددة
تطرح الأمم المتحدة والهيئات العلمية الدولية سيناريوهات متعددة لتغير المناخ، بناء على المعطيات الحالية والأرقام التي تم ويتم رصدها منذ أن بدأت الدول باتباع الأساليب العلمية لرصد درجات الحرارة وملوثات الهواء.
أشد هذه السيناريوهات تشاؤما وقتامة تتوقع ارتفاعاً في درجات الحرارة يصل لحد 7 درجات مئوية بحلول عام 2100، الأمر الذي يشكل كارثة على البشرية جمعاء، ويهدد باختفاء دول بأكملها، إضافة لنزوح وهجرة مئات الملايين من البشر. أما أشدها تفاؤلاً فيتوقع ارتفاعا بمتوسط درجة ونصف مئوية إلى درجتين مع حلول عام 2100.
ومن أجل تجنب حدوث هذين السيناريوهين، المتفائل والكارثي بنفس الوقت، يتوجب على البشرية تخفيض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون بدءاً من الآن وحتى حلول عام 2030 بمقدار 45%، وهو ما أقره مؤتمر واتفاق باريس لتغير المناخ في عام 2015، والذي تنصلت وانسحبت منه الولايات المتحدة في العام الفائت.
الكربون والأغنياء
خلال العقود الثلاثة الماضية، وفي الفترة الممتدة بين عامي 1990 و2015 ارتفعت الانبعاثات السنوية لغاز ثاني أوكسيد الكربون بنسبة 60%، وتضاعفت انبعاثات الغاز التراكمية. ويتحمل 10% من سكان العالم الأكثر ثراء والمقدرين بحوالي 630 مليون نسمة، المسؤولية عن 52% من هذه الانبعاثات التراكمية، والتي تعادل ثلت ميزانية الكربون العالمية. كما يتحمل 1% من سكان العالم الأكثر غنى المسؤولية عن 15% من انبعاثات الكربون التراكمي الضار في كوكبنا خلال الخمس والعشرين عاما الفائتة.
وبالمقابل فإن 50% الأفقر في سكان العالم مسؤولون فقط عن 7% من انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون التراكمي العالمي، و4% من ميزانية الكربون العالمية. إضافة لذلك فإن مسؤولية 1% من سكان العالم الأكثر ثراء تعادل 3 أضعاف الـ 50% الأفقر من سكان العالم من ناحية معدل النمو الاجمالي لانبعات غاز ثاني أوكسيد الكربون.
النمو الاقتصادي غير المتكافئ يعزز الكلفة المناخية
ترافق تزايد الغازات الملوثة في الغلاف الجوي، مع زيادة كبيرة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي، رغم الأزمة الاقتصادية التي ضربت الأسواق الدولية في عام 2008. وعلى التوازي مع زيادة الناتج المحلي العالمي، تفاقم معدل التفاوت في الدخل، وارتفعت معدلات عدم التكافؤ بين سكان الكوكب، وازداد غنى الأغنياء، وارتفعت معدلات فقر الفقراء. هذا النمو الاقتصادي غير المتكافئ يخلف آثارا جانبية سلبية متعددة، أبرزها إبطاء الجهود الرامية لمكافحة الفقر، إضافة لتأثيره على ميزانية الكربون العالمية.
كما سيضاعف هذا الواقع مسؤولية أغنياء العالم عن زيادة الفقر وعن تلوث البيئة معا، إضافة لأزمات مستقبلية للبشربة جمعاء بأغنيائها وفقرائها. كما أن تغير المناخ وارتفاع ميزانية الكربون العالمية التي يتسببون بها، ستؤثر بشكل أكبر على فقراء العالم الذين يساهمون بأقل قدر من قيمة الميزانية الكربونية، وبالتالي سيكونون أول ضحايا التغير المناخي. إضافة لذلك سيورث هذا الواقع الأجيال القادمة تحديات يومية أكبر ومناخاً أكثر دماراً وميزانية كربون عالمية أعلى وغير متكافئة.
محاربة عدم مسواة انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون من أجل تحقيق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً يجب أن يكون المتوسط العالمي لانبعاثات الفرد حوالي 2.1 طن في العام بحلول عام 2030، بالمقابل تشير الدراسات الحديثة أن البصمة الكربونية لـ 10% من سكان الأغنى في العالم تبلغ عشرة أضعاف الانسان العادي. ففي فرنسا على سبيل المثال تبلغ قيمة البصمة الكربونية للفرد الواحد للـ 10% الأغنى من السكان حوالي 17.8 طن في السنة، بالمقابل تبلغ قيمة البصمة لـ 50% من السكان الأكثر فقراً 3.9 طن سنويا، أي أن 10% الأكثر غنى في فرنسا لهم بصمة كربونية أعلي بمقدار أربع مرات ونصف من الفقراء، كما أن الفجوة تزاد عمقاً ب 13 مرة عند مقارنة 1% من أغنياء فرنسا مع الأشد فقرا فيها.
دروس مستفادة
من الضروري أن تضع الحكومات والمجتمعات أفرادا وجماعات وتنظيمات أزمة المناخ على سلم أولياتها بدءا من هذه اللحظة، لأن الكارثة الحالية تمثل نموذجا مصغراً أحادي البعد، مما يمكن أن تعيشه البشرية من كوارث متعددة الأبعاد نتيجة تغير المناخ، كما تشكل الأزمة الحالية فرصة ذهبية لتطوير اقتصاد أكثر عدلاً، يساهم في ردم هوتي الفقر والبصمة الكربونية، اللتين تقسمان عالمنا الحالي لجزأين، كل منهما يؤثر على الآخر.
ومن ناحية أخرى هناك اتجاهات ونقاشات على مستويات متعددة حكومية وغير حكومية في بلدان كثيرة كشمال أوروبا وفرنسا وألمانيا حول فرض ضريبة على المواطنين للمساهمة في جهود مكافحة تغير المناخ. هذه الاتجاهات تلقى معارضة كبيرة، لأنها تساوي الفقير بالغني من حيث التزاماته الببيئة رغم أن الأغنياء لهم الحصة الأكبر في مسبباتها. لذلك تشكل أزمة كورونا الحالية، فرصة إضافية للدول لمراجعات سياساتها برمتها، وعلى رأسها الضرائب المستقبلية التي تساوي الغني مع الفقير من حيث الضريبة الكربونية، والتي ربما ستلزم الانسان العادي بدفع ضرائب تقارب ما يدفعه الانسان الغني، كل حسب حجم دخله، كما تشكل فرصة ذهبية لإلزام أصحاب البصمة الكربونية الأعلى على دفع ضرائب لمكافحة جهود تغير المناخ واجبارهم على التحول لتنمية أكثر استدامة، تكون في صالح الجميع الأغنياء والفقراء المساهمين الأقل في هذا التهديد المتعاظم يوما بعد اليوم. ميزانية الكربون العالمية.
تعريفات:
– ميزانية الكربون العالمية: هي الحد الأقصى لكمية ثاني أوكسيد الكربون التي تنبعث في الغلاف الجوي من أجل الحد من ارتفاع متوسط درجة الحرارة في العالم إلى 1,5 درجة مئوية، وهو هدف حددته إتفاقية باريس من أجل تجنب أزمة مناخية خارجة عن السيطرة.
– البصمة الكربونية: مصطلح أطلق لأول مرة في تسعينيات القرن العشرية وهو مؤشر يشير إلى إجمالي الانبعاثات الضارة عن الأفراد أو المنتجات والتي تتمثل بانبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون.