الإستدامة المالية، بين الحاضر ومستقبل أبنائنا

د. محمد عبدالستار جرادات

 

تكرر مصطلح الإستدامة كممارسة فضلى وهدف تسعى له مختلف الحكومات والمؤسسات والشركات في السنوات الأخيرة، وعادة ما يكون هذا المصطلح مصاحبا لمفردات أخرى، فالتنمية المستدامة والإستدامة البيئية ومصادر الطاقة المستدامة والبناء المستدام، كلها مفاهيم تركز في جوهرها على تحقيق شكل من أشكال الإستدامة. والإستدامة بالنسبة للبشر؛ هي القدرة على حفظ نوعية الحياة التي يعيشها على المدى الطويل، وهذا بدوره يعتمد على حفظ العالم الطبيعي والاستخدام المسؤول للموارد، بحيث أن مكتسبات جيل يعيش اليوم لن تكون على حساب أجيال قادمة، من حيث توفر الموارد والبيئة والظروف المناسبة للعيش. فالتوسع في الإنفاق في دولة ما أو الاقتراض أو الخصخصة وبشكل كبير وغير مدروس، قد يولد طفرة اقتصادية لفترة قصيرة يتمتع بها الجيل الحالي، فإذا كان هذا الإنفاق أو الاقتراض غير مستدام وغير مدروس، ستتحمل عقباته الاقتصادية الأجيال القادمة. ذات المفهوم يمكن عكسه على البيئة فعند استخدام تقنيات ملوثة للبيئة رخيصة الثمن لتوفير النفقات، أو عند ممارسة الصيد الجائر للحيوانات والأسماك قد يكون لهذه الممارسات فوائد اقتصادية على المدى القصير للجيل الحالي، ولكن سيكون لها تبعات بيئية ستتحملها الأجيال اللاحقة. ومن الناحية الاقتصادية؛ فإن المؤسسات والشركات تاريخيا كانت تركز بشكل كبير على أهداف اقتصادية ربحية بحتة تحت مفهوم “صافي الدخل”، أو قد يشار إليه أيضا بإسم “المحصلة النهائية” أو “صافي الربح” أو “صافي الكسب”، حيث تفصح الشركات المساهمة العامة عن قوائمها المالية بشكل ربعي (كل ثلاثة شهور)، وعن نتائج أعمالها السنوية من خلال تقريرها السنوي، والذي يبين صراحة صافي دخل الشركة المتحقق من خلال “قائمة الدخل الموحدة”، فالتركيز على الجوانب المالية والربحية هو أهم الجوانب الذي يعكس مدى نجاح الشركات والمؤسسات.

تحت هذا المفهوم، تركز الشركات على دورها الاقتصادي من حيث الأرباح المتحققة سنويا، وتوقعات الأداء الاقتصادي للسنوات القادمة، وأيضا دورها في الحفاظ على البيئة من خلال التقليل من التلوث وترشيد استخدام الطاقة والمياه، والإعتماد على المصادر المتجددة لتوليد الطاقة، وكذلك تهتم بالبعد الاجتماعي سواء أكان دورا اجتماعيا تجاه موظفيها، من خلال تدريبهم والاحتفاظ بهم وتقديم المنافع المناسبة لهم وتحقيق التوازن على مستوى النوع الاجتماعي، أو زبائنهم من خلال قنوات التواصل مع العميل والمسؤولية المباشرة تجاهه، أو المجتمع ككل من خلال تطبيق مفاهيم المسؤولية المجتمعية.

يوجد العديد من المبادرات والمعايير اليوم من أجل الترويج لمفهوم الاستدامة في أداء المؤسسات والشركات، وضرورة النظر طويل الأمد لنتائج الأعمال وأثرها على البيئة والمجتمع ككل، بالإضافة إلى الاهتمام بالنتائج الاقتصادية والربحية، وحتى النتائج الربحية يمكن تقديمها أيضا بشكل يحقيق أثر أكبر على المستوى طويل الأمد والمستوى الكلي للاقتصاد الوطني أو العالمي، كالمساهمة في تقليل الفقر والبطالة وتحقيق النمو والوصول إلى الفئات المهمشة، حيث تشجع هذه المبادرات والمعايير المؤسسات والشركات بإصدار تقارير استدامة دورية لأعمالها، ليغطي هذا التقرير النتائج والأثر الاقتصادي والبيئي والاجتماعي لأعمال المؤسسات والشركات ضمن إطار كلي ممنهج طويل الأمد. ولعل من أهم المعايير المتبعة لإصدار تقارير الاستدامة لأعمال مختلف المنظمات، هي المعايير الواردة في الأدلة الاسترشادية الصادرة عن المبادرة العالمية لإعداد التقارير (GRI)، وهي منظمة دولية مستقلة مقرها الرئيس في أمستردام/هولندا معنية بإعداد المبادئ التوجيهية لتقارير الاستدامة منذ عام 1997، وتعمل هذه المنظمة على مساعدة الأعمال والحكومات والمؤسسات على إدراك وإعلان تأثر أعمالها على مواضيع رئيسة مرتبطة بالاستدامة وفق مؤشرات ومعايير واضحة، اليوم تصدر تقارير الاستدامة وفق هذه المعايير في أكثر من 100 دولة حول العالم، كما أن المؤسسات الكبرى العالمية تعمل على إصدار تقارير استدامة لها بشكل دوري، إذ إن 93% من أكبر 250 شركة في العالم تصدر تقارير استدامتها. يوجد اليوم نجاحات تحت هذا المفهوم في المملكة أيضا، فقد قامت مجموعة من المؤسسات والشركات الأردنية الكبرى بإعداد تقرير استدامة لها كالبنك العربي على سبيل المثال، والذي يصدر تقارير استدامته بشكل دوري منذ فترة من الزمن، أما بالنسبة للمؤسسات الحكومية فإن المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي تعتبر الأولى ضمن المؤسسات الحكومية ذات الاستقلال المالي، التي أصدرت تقريرا للاستدامة خاصًا بها، إذ إن مفهوم الاستدامة يتوافق بشكل كبير مع أهداف المؤسسة.

أصدرت بورصة عمان الدليل الإرشادي حول إعداد تقارير الاستدامة في عام 2019، بهدف نشر الوعي بين الشركات المدرجة في البورصة بأهمية الاستدامة والفوائد التي تعود عليها وعلى كافة الأطراف ذات العلاقة، وتم تحديث الدليل الإرشادي حول إعداد تقارير الاستدامة في أيلول 2022، ومن الجدير بالذكر أن بورصة عمان قامت بإلزام الشركات المدرجة ضمن عينة الرقم القياسي  ASE20 بإصدار تقارير الاستدامة، حيث ستقوم هذه الشركات عام 2023 بإصدار تقارير الاستدامة عن عام 2022 وفقا لمعايير المبادرة العالمية لإعداد التقارير، وتوصي بورصة عمان بالبدء بتضمين معايير تأثير أهداف التنمية المستدامة ضمن هذا التقرير. ويتوقع بعض الخبراء أن تقارير الاستدامة ستصبح إجبارية للمؤسسات والشركات خلال العشر سنوات القادمة في بعض الدول. اليوم نحن بحاجة ماسة إلى نشر فكر وثقافة الاستدامة في جميع الاستراتيجيات والسياسات التي تتبناها الحكومات والمؤسسات وشركات القطاع الخاص والأفراد، ونتساءل هل السياسات الحكومية المتبعة حاليا تنسجم مع هذا المفهوم أو الفكر؟ وهل مكتسبات الأجيال السابقة أو الجيل الحالي هي موزعة بعدالة أم ستكون على حساب أجيال المستقبل؟

بالنظر إلى السياسات الاقتصادية المتبعة حاليا، فإن نتائجها على المستوى المتوسط والبعيد قد لا تخدم النتائج الكلية المتعلقة بتقليل الفقر والبطالة، بالنتيجة نحن بحاجة فعلا إلى نهج شامل ومستدام خارج إطار البعد المالي البحت يراعي الجوانب البيئية والاجتماعية والجوانب الاقتصادية على المدى البعيد، والأثر المنشود طويل الأمد بتقليل نسب الفقر والبطالة وتحقيق التنمية المستدامة.

 

حفظ الله الأردن تحت ظل الرعاية الهاشمية الحكيمة من كل مكروه.

Scroll to Top