آراء إقتصادية

الاستخبار الرقمي من أدوات التحليل إلى هندسة المستقبل

د. مروة بنت سلمان آل صلاح

عمان- إذا كان الاستخبار الرقمي اليوم هو سلاح التوازن في الأسواق والصناعات، فإن غده سيكون البنية التحتية التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي برمته. نحن لا نتحدث عن مرحلة “التحليل” فحسب، بل عن الانتقال إلى هندسة الاقتصاد قبل ولادته: أي تصميم استباقي لمسارات رؤوس الأموال، لسلاسل التوريد، وللصناعات الناشئة قبل أن تتحول إلى كيانات قائمة.

في هذا السياق، تصبح قيمة الاستخبار الرقمي أكبر من مجرد ميزة تنافسية إنه معيار السيادة الجديد. الدول التي كانت تقاس قوتها يوما بحجم جيوشها أو احتياطياتها من الطاقة، أصبحت اليوم تقاس بقدرتها على إدارة تدفقات البيانات وتحويلها إلى سياسات واقتصادات قابلة للحياة. من يملك المعلومة الدقيقة والخوارزمية الأذكى يملك اليد العليا في صياغة قواعد اللعبة، ليس على مستوى الشركات وحدها، بل على مستوى الدول وموازين القوى الدولية.

لقد انتقل العالم من مرحلة “التعامل مع الأزمات” إلى مرحلة “صناعة الوقائع” عبر الاستخبار الرقمي. لم يعد السؤال: كيف نستجيب للتحولات الاقتصادية بعد وقوعها؟ بل كيف نصمم هذه التحولات ونرسم ملامحها قبل أن تتشكل. القدرة على التنبؤ بانقطاع في سلاسل التوريد، أو بركود في قطاع معين، أو بانفجار استثماري في مجال ناشئ، تعني القدرة على إعادة توزيع النفوذ الاقتصادي والسياسي في العالم. وهكذا اصبح الاستخبار الرقمي ليس مجرد أداة سوق، بل العمود الفقري لتحديد من يقود ومن يتبع.

في قلب هذا التحول، يبرز سؤال محوري: كيف يمكن لدول صغيرة نسبيا، محدودة الموارد الطبيعية، أن تجد لنفسها موقعا في السباق العالمي؟ هنا يأتي دور الأردن. رغم محدودية موارده، يمتلك عناصر قوة إستراتيجية نادرة: موقع جغرافي يتوسط ثلاث قارات، استقرار سياسي وأمني وسط إقليم مضطرب، ورؤية قيادية مبنية على الاستثمار في المعرفة والتكنولوجيا. والأهم، طاقة بشرية شابة متعلمة قادرة على التعامل مع اللغة الرقمية ومهارات التحليل. كل ذلك يجعل الأردن مرشحا طبيعيا لأن يكون مركزا إقليميا للاستخبار الرقمي، إذا ما أحسن استثمار هذه المقومات في مشروع وطني متكامل.

إن بناء نموذج أردني للاستخبار الرقمي لا يعني مواكبة التحولات العالمية فحسب، بل إعادة تعريف مكانة الأردن في الاقتصاد الدولي. تخيلوا اقتصادا لا يقتصر على جذب الاستثمارات التقليدية في السياحة أو الصناعة، بل يقوم على منصات استخبار قادرة على تقديم قراءات إستراتيجية للمستثمرين الإقليميين والعالميين، بحيث تصبح عمان عاصمة تحليلية لاتخاذ القرار الاقتصادي في الشرق الأوسط. هذه رؤية قابلة للتنفيذ إذا تضافرت الجهود بين الدولة والقطاع الخاص والجامعات.

البيانات ليست مجرد مخزون معلوماتي، بل ثروة وطنية يجب إدارتها وحمايتها كما تدار الثروات الطبيعية. كما كان النفط عنصرا حاسما في تشكيل القوة الاقتصادية في القرن العشرين، ستكون البيانات والاستخبار الرقمي العنصر الحاسم في القرن الحادي والعشرين. والسيادة الحقيقية تتحقق فقط بامتلاك القدرة على إنتاج الخوارزميات وتحليل البيانات محليا، لا بالاعتماد على منصات مستوردة قد تفرض تحيزاتها وقيمها على قراراتنا الاقتصادية.

يمكن لهذه الرؤية أن تتجسد في الأردن عبر تأسيس مراكز استخبار رقمي تعمل كغرف عمليات إستراتيجية، تدمج بين التحليل الاستثماري والصناعي والأمني في آن واحد. هذه المراكز لا تقتصر على جمع البيانات، بل تبني نماذج محاكاة للاقتصاد الوطني والإقليمي، تختبر مئات السيناريوهات، وتقترح السياسات والقرارات قبل وقوع الأزمات. يصبح صانع القرار الأردني مسلحا ليس فقط بالمعرفة بما يحدث، بل بقدرة استباقية على صياغة ما يجب أن يحدث.

وما يميز الأردن أيضا هو إمكانيته في لعب دور يتجاوز حدوده الوطنية. فبفضل موقعه الجيوإستراتيجي، يمكنه قيادة مشروع إقليمي لإنشاء شبكة استخبار رقمي عربية، تجمع البيانات الاقتصادية والصناعية، وتقدم قراءات موحدة للأسواق، وتخلق كتلة تفاوضية عربية أمام القوى الاقتصادية الكبرى. هذا المشروع يعيد صياغة موقع المنطقة العربية كجسر اقتصادي بين الشرق والغرب، ويحولها من متلق للفرص إلى صانع لها.

التحديات موجودة، لكنها قابلة للتحويل إلى نقاط قوة. فجوة التمويل، التبعية التكنولوجية، وضعف وعي المؤسسات بأهمية الاستخبار الرقمي، كل ذلك يمكن تجاوزه ببنية رقمية مرنة، واستثمار الشباب الأردني الموهوب، وإقامة شراكات دولية توفر الخبرة والتمويل دون المساس بالسيادة.

ما يحتاجه الأردن اليوم هو قرار إستراتيجي جريء: تحويل الاستخبار الرقمي من مشروع تقني هامشي إلى ركيزة وطنية. وهذا القرار ينبغي أن يتجسد في ميثاق أردني للاستخبار الرقمي يجمع الدولة والقطاع الخاص والجامعات، ويضع خطة متكاملة لتوظيف البيانات في خدمة السيادة الاقتصادية. ميثاق يحدد كيفية جمع البيانات، تحليلها، حمايتها، وتحويلها إلى سياسات واستثمارات وصناعات.

تخيلوا عمان بعد عقد من الزمن: مدينة ذكية، مليئة بمراكز تحليل بيانات متقدمة، تستخدم المحاكاة الرقمية لتوجيه القرارات الاستثمارية، وتستقطب العقول المبدعة من جميع أنحاء المنطقة. شبكة عربية للاستخبار الرقمي تعمل ككتلة تفاوضية موحدة، تجعل المنطقة لاعبا مؤثرا عالميا في الاقتصاد الرقمي.

العالم اليوم لا ينتظر. الإمبراطوريات الجديدة تبنى على المعرفة الدقيقة والتحليل الإستراتيجي. ومن يمتلك منظومة استخبار رقمي متكاملة لا يشارك في السباق فقط، بل يعيد رسم قواعده. الأردن قادر على التحول من دولة ذات اقتصاد محدود إلى عقل إستراتيجي للمنطقة، ومن لاعب يبحث عن موقع إلى صانع قواعد السوق. وفي زمن لم يعد البقاء فيه للأكبر حجما، بل للأذكى استشرافا، فإن هذه الفرصة تمثل أعظم استثمار يمكن للأردن القيام به في القرن الحادي والعشرين، وإبحار الاقتصاد الإقليمي بنجمة شمالية ثابتة ترشد خطواته نحو قيادة المستقبل.

* مطور للمدن الذكية والاقتصاد الرقمي

زر الذهاب إلى الأعلى