فهم الاقتصاد السياسي في الصين
بقلم: تشانغ جون، توماس كاساس كليت
شنغهاي ــ بينما تواجه الصين تحديات هائلة ــ بما في ذلك انهيار قطاع العقارات، والعوامل الديموغرافية غير المواتية، وتباطؤ النمو ــ تتزايد الشكوك حول مستقبل أكبر محرك للنمو في العالم. وفي ظل صعود الصين على الصعيد الجيوسياسي، فضلاً عن التوترات المتزايدة مع الولايات المتحدة، فقد أصبحت الحاجة إلى فهم الاقتصاد السياسي في الصين أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.
من الممكن أن يساعدنا في ذلك كتاب صدر مؤخرًا من تأليف ياشينغ هوانج من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بعنوان “صعود وسقوط الشرق: كيف ساهمت الاختبارات والاستبداد والاستقرار والتكنولوجيا في نجاح الصين، ولماذا قد تتسبب في تدهورها”. يكشف هوانج عن توجه “الشرق” منذ السجل التاريخي للألفيتين ونصف الألفية الماضية، وخاصة السنوات الأربعين الماضية، لكي يتوصل إلى نتيجة واضحة: يتعين على الصين إجراء تغييرات جذرية إذا كانت راغبة في تحقيق كامل إمكانياتها الإنمائية.
يُجادل هوانج أن بذور تدهور الصين زُرعت منذ القرن السادس، مع تطبيق نظام كيجو الخانق لامتحانات الخدمة المدنية. وهو يرى أن هذا النظام يقدم إجابة على “السؤال الكبير” الذي طرحه المؤرخ جوزيف نيدهام: لماذا فشلت الصين الإمبراطورية، بالنظر إلى مزاياها العلمية والتكنولوجية العميقة، في إطلاق ثورتها الصناعية قبل فترة طويلة من قيام أوروبا بذلك؟
قبل اعتماد نظام كيجو، كانت الصين تنتج بعض الاختراعات الأكثر تحولاً في التاريخ، مثل البارود والبوصلة والورق. ومع ذلك، تُشير الأبحاث التجريبية التي أجراها هوانج إلى أن الإبداع الصيني بلغ ذروته بين عامي 220 و581، خلال فترة خلو العرش الفوضوية إلى حد ما. ويلاحظ هوانج أن “الموجة الأولى من الركود التكنولوجي في الصين تتزامن مع نهاية الانقسام السياسي في الصين”.
ويبدو أن كتاب “صعود وسقوط الشرق” يبالغ في تصوير بعض جوانب السجل التاريخي، وذلك من أجل تقديم سرد “أنظف ” مما قد يكون مُبررًا. على سبيل المثال، تُشكل مجموعة البيانات الخاصة باستقالة رؤساء الوزراء الأساس للاستنتاج الذي توصل إليه هوانج والذي مفاده أنه مع إدخال نظام كيجو، اختفت الضوابط والتوازنات بين الأباطرة والبيروقراطيين التابعين لهم لصالح “العلاقة التكافلية”. والنتيجة هي سرد خطي للتراجع. ومع ذلك، من الصعب تحقيق ذلك في ظل “الثورة الصناعية” التي قامت بها أسرة تشينغ، والتي تضاعف عدد سكان الصين خلالها وبلغ نصيبها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي الثلث.
ومع ذلك، يمكن أن يكون هوانج شديد الإدراك، كما هو الحال عندما يتحدى حكم ديفيد لانديز الذي يقضي بأن الدولة تُدمر التقدم التكنولوجي. وبدلاً من ذلك، يزعم هوانج أن “قيادة الصين المُبكرة في مجال التكنولوجيا كانت مُستمدة بشكل حاسم وربما بشكل مباشر من الدور الذي تضطلع به الدولة”. وهو يقول، نقلاً عن خبير الاقتصاد دوجلاس نورث الحائز على جائزة نوبل: “إذا كنت تريد تحقيق إمكانيات التكنولوجيا الحديثة، فلن تتمكن من القيام بذلك بمساعدة الدولة، ولا يمكنك الاستغناء عنها أيضًا”.
ولكن أي نوع من الدولة؟ يرى هوانج أن الاستبداد “له جذور عميقة في الصين بسبب تصميمها شبه المُحصن، وغياب المجتمع المدني، والقيم والأعراف الراسخة”. إلا أن ميل الصين نحو “الحكم المُوحد”، كما يدّعي، هو اتجاه ثقافي في الأساس، حيث يمتد “اتجاه العلاقة السببية” للحكم الاستبدادي “من الثقافة إلى السياسة، وليس العكس”.
وعلى نحو مماثل، يُلقي العديد من الباحثين الصينيين المُعاصرين اللوم في تراجع حظوظ وثروات الصين في القرنين التاسع عشر والعشرين على الأيديولوجية الكونفوشيوسية المُحافظة، التي افتقرت إلى روح الاكتشاف أو الدافع لخوض المجازفات. يُشير هوانج إلى أنه في الأوقات التي كان فيها البوذيون والطاويون يمثلون حصة أكبر من الشخصيات التاريخية البارزة، مقارنة بالكونفوشيوسيين، كانت الأفكار الجديدة أكثر عُرضة للازدهار/النجاح.
ومع ذلك، هناك من الأسباب ما يجعلنا نعتقد أن هياكل الدولة وتفضيلاتها السياسية في الصين ليست ذات أصل ثقافي فحسب، بل إنها أيضاً ــ أو ربما بالأحرى ــ نتيجة لتدابير مُؤسسية مدروسة. على سبيل المثال، يتم إدارة منظمات الأعمال الصينية من قبل الرؤساء المُستبدون. وفي كل الأحوال، يمكن للتركيز بشدة على الهياكل الصينية المُتجهة من القمة إلى القاعدة أن يحجب الطبيعة العمليّة التي تتسم بها العديد من جوانب الحياة السياسية والاقتصادية الصينية.
وكما لاحظ هوانج، فإن الاقتصاد السياسي الصيني لا يتميز بالسيطرة فحسب، بل يتميز أيضاً بالاستقلالية. وفي حين استفادت الصين من إدارة الدولة، في شكل سياسات مدروسة تنازلية (والمتمثلة في خطط السنوات الخمس التي وضعتها الحكومة)، أثبتت المبادرات الخاصة التصاعدية والفوضوية (مثل الأنشطة التجارية) أيضاً أهميتها الحيوية بالنسبة للنمو الاقتصادي. إن فهم التوازن بين السيطرة والاستقلالية يُشكل ضرورة أساسية لأي تقييم للتحديات التي تواجهها الصين، بدءًا من إطلاق العنان “للغرائز الحيوانية” إلى تنفيذ الإصلاحات المؤسسية.
ويتناول كتاب “صعود وسقوط الشرق” أيضًاً السبب وراء نجاح الصين حتى الآن في تجنب ما يُسميه الكاتب بـ “لعنة تولوك” ــ والتي تُشير إلى عدم الاستقرار أو الصراع الناجم عن الحوافز السيئة والمُتضاربة التي تحدد الخلافة الاستبدادية. ولكنها ربما استفادت من تحليل أعمق لظاهرة أخرى استكشفها الخبير الاقتصادي جوردون تولوك: السعي لتحقيق الأرباح.
يتم تحديد مسار التنمية الاقتصادية والبشرية في أي بلد إلى حد كبير من خلال ما إذا كانت النخب تستخدم سلطتها لخلق أو استخراج القيمة. وربما لا يمكن تجنب درجة مُعينة من السعي وراء الربح. قد يرفض المرء “بارونات أو رجال الأعمال” في أميركا في القرن التاسع عشر باعتبارهم غير أخلاقيين، ولكن أمثال روكفلر، وفاندربيلت، وكارنيج، وآخرين لعبوا دوراً مهمًا في جعل الولايات المتحدة الدولة الأكثر ازدهاراً في العالم. وعلى نحو مماثل، تستمر شركات التكنولوجيا الاحتكارية التي أنشأها أمثال بِيل جيتس ومارك زوكربيرج في تجسيد الإبتكار الأميركي.
ولسوء الحظ، يفتقر تفسير هوانج إلى تقييم دقيق للعلاقة بين البحث عن الربح وخلق القيمة. وربما كان ليلاحظ أن “جودة النخبة” في الصين أعلى بكثير مما هي عليه في البلدان الأخرى التي تتمتع بنفس نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. بل إنها بدلاً من ذلك قابلة للمقارنة بدول الاتحاد الأوروبي حيث يبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ثلاثة أضعاف نصيب الفرد في الصين.
والحقيقة هي أن خلق القيمة المُستدامة كان بمثابة الأساس لمعدلات النمو التي تجاوزت 10% في الصين لعقود من الزمان. ومع ذلك، كما أوضح هوانج، فإن إستراتيجية التنمية التي عززت صعود الصين على مدى العقود القليلة الماضية وصلت إلى حدودها. والآن يتعين على الصين استخدام قدرتها على الابتكار ونخبها العالية الجودة لتحفيز إمكانياتها وتعزيز مؤسساتها، مع السعي إلى تحقيق قدر أعظم من التحرر.
وأياً كان ما سيأتي بعد ذلك، فسوف يعتمد على نظام القيم التقليدية الفريد في الصين، والذي، كما يؤكد هوانج، ساهم في تعزيز الازدهار والابتكار في الماضي. وسوف يعكس العزم ــ وليس الجمود ــ الذي يكمن في صميم الاقتصاد السياسي الصيني.