ماذا يُقصد بالحكومة التي تركز على المُهمات؟
بقلم: ماريانا مازوكاتو، راينر كاتيل
لندن- لفتت جائحة فيروس كورونا كوفيد-19، إلى جانب التضخم، والحروب انتباه الحكومات إلى التدابير اللازمة لمعالجة الأزمات الكبيرة. وفي الظروف الاستثنائية، غالبا ما يكتسب صانعو السياسات من جديد القدرة على اتخاذ قرارات جريئة. وخير مثال على ذلك، تطوير لقاح كوفيد-19 ونشره بسرعة كبيرة.
ولكن الاستعداد لمواجهة تحديات أخرى يتطلب بذل المزيد من الجهود المتواصلة من جانب “الحكومة التي تركز على المُهمات”. واستلهاما باللغة والاستراتيجيات الناجحة التي استُخدمت في حقبة الحرب الباردة، فإن الحكومات في مختلف أنحاء العالم تختبر برامج سياسية طموحة، وشراكات بين القطاعين العام والخاص، سعيا منها لتحقيق أهداف اجتماعية واقتصادية وبيئية محددة. فعلى سبيل المثال، في المملكة المتحدة، بدأ برنامج الحملة الانتخابية لحزب العمال الذي يسعى لتنفيذ خمس مهمات نقاشا قويا بخصوص ما إذا كان ممكنا بناء “اقتصاد يركز على المُهمات” وكيفية تحقيق ذلك.
إن الحكومة التي تركز على المُهمات لا تهدف إلى الالتزام الصارم بمجموعة من الأفكار الأصلية؛ بل تُحدد المكونات الأساسية للمُهمات، وتدرك أن الأساليب المنتهجة لتنفيذها قد تختلف حسب البلد المعني. وفي ظل الظروف الراهنة، تتضمن الآليات الجديدة للمهمات العامة إعادة تصنيف المؤسسات والسياسات القائمة أو إعادة توجيهها، مما يعَثر هذه المهمات أكثر مما يُسرعها… ولكن هذا أمر جيد. ولا ينبغي لنا أن نتوقع حدوث تغيير جذري في استراتيجيات صنع السياسات بين عشية وضحاها، أو حتى على مدى دورة انتخابية واحدة.
وفي الديمقراطيات الليبرالية بصورة خاصة، يتطلب التغيير الطموح المشاركة عبر مجموعة واسعة من الدوائر الانتخابية لتأمين التأييد الشعبي، وضمان تقاسم الفوائد على نطاق واسع. إن المفارقة الكامنة في قلب الحكومة التي تركز على المهمات هي أنها تسعى إلى تحقيق أهداف سياسية طموحة ومفصلة بوضوح، وذلك باتباعها لعدد لا يحصى من السياسات والبرامج القائمة على الاختبار.
إن اعتماد سياسة الاختبار هذه هي ما يفصل مهمات اليوم عن مهمات عصر السباق نحو القمر (مع أنها تعكس النهج التجريبي الذي اتبعته إدارة “روزفلت” خلال “الصفقة الجديدة” التي عُقدت في ثلاثينيات القرن العشرين). إن التحديات المجتمعية الكبرى، مثل الحاجة الملحة لإنشاء نظم غذائية أكثر إنصافا واستدامة، لا يمكن معالجتها بنفس النهج الذي اعتُمد لتنفيذ مهمة الهبوط على القمر. إذ تتكون مثل هذه النظم من أبعاد تكنولوجية متعددة (في حالة الغذاء، تشمل هذه الأبعاد كل شيء بما في ذلك الطاقة وإدارة النفايات)، وتتضمن عوامل منتشرة على نطاق واسع، وغالبا ما تكون منفصلة بعضها عن بعض، ومجموعة من المعايير والقيم والعادات الثقافية.
ويتطلب تحويل مثل هذه النظم المعقدة وضع مجموعة من البرامج التي تهدف إلى تحقيق هدف مشترك، وليس استراتيجية تملي كيف ينبغي لكل قطاع أو مؤسسة أن يعالج الجزء الذي يعنيه من المشكلة. وبدلا من أن تحاول المهمات الناجحة اليوم تجاهل الطابع المعقد لهذه النظم، فإنها ستجعلها عنصرا جوهريا في صنع السياسات.
لذا، فإن النجاح يعتمد على فهم ما الذي لا يُفترض أن تتسم به المهمات. فبادئ ذي بدء، المهمات لا تعني التخطيط الهرمي الذي يضعه صانعو السياسات الملمون إلماما كاملا بمهماتهم. بل يعتمد على استكشاف ريادة الأعمال والمنافسة في القطاع الخاص للدفع قدما بالاختبارات اللازمة لمعرفة الحلول الناجحة.
وليست المهمات مرادفة للسياسة الصناعية، ولكنها قادرة (بل وينبغي لها أن تفعل ذلك) على تشكيل مثل هذه السياسات، وتوضيح أغراضها أو مقياس نجاحها. فعلى سبيل المثال، ماذا يعني أن تعمل السياسة على تعزيز القدرة التنافسية؟ هل نتحدث عن زيادة الإنتاجية والصادرات والناتج المحلي الإجمالي، أم عن الأجور وأشكال النمو الأكثر استدامة؟ إن الخيار الأخير يتطلب وضع توجيهات تتعلق بمهمة ما، لأن الأسواق بمفردها لن تحقق بالضرورة النتائج المرجوة.
ولا تقتصر المهمات على سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار فحسب. إن الاستثمار في التعليم عالي الجودة والبحوث الأساسية لا يعتمد على نتائج مهمة ما. فنحن نعلم بالفعل أن هذا الاستثمار يولد فوائد اجتماعية واقتصادية واسعة النطاق. ولكن عندما نريد أن يساعدنا التعليم والبحث في مواجهة تحدٍّ معين، فإننا نحتاج إلى مهمة معينة. فعلى سبيل المثال، إذا كانت المملكة المتحدة تأمل في الاستفادة من نظام ابتكارها لمعالجة عدم المساواة، فيجب عليها التأكد من أن التمويل يساهم في تنوع ما تجري دراسته أو بحثه أو تطويره.
كذلك، فإن النمو الإجمالي ليس مهمة. وبطبيعة الحال، يمكن للمهمات أن تشجع على التعاون، والابتكار، والاستثمارات عبر مختلف القطاعات في سعيها لتحقيق هدف واحد، ومن ثم توليد آثار تكنولوجية غير مباشرة، والمساهمة في الإنتاجية وخلق فرص العمل، وتوليد النمو الاقتصادي في النهاية. ولكن المعاملة بالمثل لابد أن تكون جزءا من العقود: فلابد أن تكون إعانات الدعم والقروض والضمانات مشروطة باستثمار قطاع الأعمال في الإبداع الذي يؤدي إلى خلق نظم إنتاج وتوزيع أفضل (أكثر شمولا واستدامة).
فعلى سبيل المثال، يُلزم قانون الرقائق والعلوم الأمريكي شركات أشباه الموصلات التي تتلقى أموالاً عامة بإعادة استثمار أرباحها (بدلاً من إعادة شراء أسهمها الخاصة) في تحسين ظروف العمل وسلاسل التوريد الموفرة للطاقة. وعندما تنظم تنظيما صحيحا بهذه الطريقة، يمكن أن يكون للمهمات تأثير مضاعف، مما يؤدي إلى توليد قدر أكبر من الاستثمار التجاري، وفي نهاية المطاف تعزيز الناتج المحلي الإجمالي بقدر أكبر مقابل كل دولار يستثمر.
إن مجرد الاتفاق على أهداف طموحة ذات صلة بالمجتمع لا يكفي. إذ تتطلب المهمات إعادة النظر بصورة جذرية في الأدوات والعمليات المعتمدة في وضع السياسات. نعم، إن وصف حلول محددة، وبناء مخططات غانت (إدارة المشاريع)، وإضافة كومة من المهام تتعلق بإعداد التقارير، لن يثير اهتمام أي شخص. ولكن يصح القول بنفس القدر أن تقديم إعانات الدعم غير المشروطة وغير المقيدة للشركات لن يحقق ذلك النوع من النمو الذي نريده، ولن يخدم الصالح العام.
وتتطلب المهمات استثمارًا كبيرًا في قدرة القطاع العام. ومن دون هذا فدائما ما سنسمع أن الحكومة التي تركز على المهمات مجرد حلم بعيد المنال- وهي على وجه التحديد الحجة التي استُخدمت لتبرير سنوات من الاستعانة بمستشارين من القطاع الخاص.
وكلما قل اعتقادنا بأن الحكومات قادرة على القيام بأي شيء آخر غير إصلاح إخفاقات السوق، قل استثمارنا في الإمكانات الأوسع نطاقا التي يتمتع بها القطاع العام. ومع أنه ليس من السهل توجيه الإبداع عن طريق السياسات القائمة على النتائج، والابتكار التصاعدي الذي يشمل مختلف القطاعات، والعمليات المشتركة بين الوزارات، فإن الأمر ممكن. والمشكلة أننا لا نتذكر ذلك إلا أثناء الحروب والأزمات. وكان أحد الأسباب وراء قيامنا بتأسيس معهد UCL للإبداع والأغراض العامة هو تغيير الطريقة التي يُنظر بها إلى الخدمة المدنية التي تركز على تحقيق النتائج، وتطبيق “فكر اقتصادي جديد” يتعلق بسياسات تشكيل السوق في سيناريوهات حقيقية تحدث في العالم.
وفي أستراليا والسويد والبرازيل، يستطيع المرء أن يجد أمثلة رائعة لوكالات الابتكار التي تختبر طرق عمل جديدة: اختبار الحلول عن طريق المشاريع التجريبية، ودمج البرامج الناجحة في مجموعات أكبر من التدخلات. وقد تطلبت هذه الجهود أيضًا ابتكارات تنظيمية، بما في ذلك خلق أدوار جديدة، وتعزيز ثقافات إدارية جديدة.
إن الحكومة التي تركز على المهمات حاسمة لتحقيق النمو الاقتصادي المستدام والشامل، ولمعالجة التحديات الكبيرة التي تواجهها البلدان. وهي لا تحتاج إلى اتباع مسار ثابت، ولكنها تدعو إلى إحداث تغييرات جوهرية في طريقة عمل الحكومات، إلى جانب زيادة الاستثمار في قدرات القطاع العام.