آراء اقتصادية

ماذا يعني فوز ترمب لاقتصاد الولايات المتحدة

في حين لا يبالي زعماء الدهماء الشعبويون من أمثال ترمب بالعجز، يجب أن يشعر المستثمرون في الولايات المتحدة والخارج بالقلق. فالعجز المتزايد الضخامة الناجم عن الإنفاق غير المعزز للإنتاجية من شأنه أن يضيف إلى توقعات التضخم، ويقوض الأداء الاقتصادي، ويؤدي إلى تفاقم التفاوت. ولن يكون إلغاء قانون خفض التضخم…

بقلم: جوزيف ستيغليتز

نيويورك- تُـعَــد الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني حدثا بالغ الأهمية لأسباب عديدة. فعلى المحك الآن ليس فقط بقاء الديمقراطية الأميركية، بل وأيضا الإدارة السليمة للاقتصاد، فضلا عن عواقب بعيدة المدى على بقية العالم.

يواجه الناخبون الأميركيون اختيارا ليس فقط بين سياسات مختلفة، بل وأيضا بين أهداف سياسية مختلفة. وفي حين لم تُـفَـصِّـل نائبة الرئيس كامالا هاريس، المرشحة الديمقراطية، أجندتها الاقتصادية بالكامل بعد، فمن المرجح أنها ستحافظ على المبادئ الأساسية لبرنامج الرئيس جو بايدن، والتي تتضمن سياسات قوية لصيانة المنافسة، والحفاظ على البيئة (بما في ذلك الحد من الانبعاثات الغازية المسببة للانحباس الحراري الكوكبي)، وخفض تكاليف المعيشة، والحفاظ على النمو، وتعزيز السيادة الاقتصادية الوطنية، والمرونة، والتخفيف من حدة التفاوت.

على النقيض من ذلك، نجد أن خصمها، الرئيس السابق دونالد ترمب، لا يُـبدي أي اهتمام بخلق اقتصاد أكثر عدالة وقوة واستدامة. بدلا من ذلك، تقدم البطاقة الجمهورية شيكا على بياض لشركات الفحم والنفط وتتقرب من أصحاب المليارات مثل إيلون ماسك وبيتر ثيل. إنها وصفة لجعل الاقتصاد الأميركي أضعف، وأقل قدرة على المنافسة، وأقل مساواة.

علاوة على ذلك، في حين تتطلب الإدارة الاقتصادية السليمة تحديد الأهداف وتصميم السياسات اللازمة لتحقيقها، فإن القدرة على الاستجابة للصدمات واغتنام الفرص الجديدة لا تقل أهمية. ونحن لدينا بالفعل تصور للكيفية التي قد يكون عليها أداء كل من المرشحين في هذا الصدد. لقد فشل ترمب فشلا ذريعا في الاستجابة لجائحة كوفيد-19 أثناء إدارته السابقة، مما أسفر عن أكثر من مليون وفاة. وفي وقت حيث كانت الولايات المتحدة في مسيس الحاجة إلى قدوة الزعامة، اقترح ترمب أن يحقن الناس أنفسهم بمواد تبييض الغسيل.

تتطلب الاستجابة لأحداث غير مسبوقة اتخاذ قرارات صعبة استنادا إلى أفضل العلوم. مع كامالا هاريس، تحظى الولايات المتحدة بشخصية متروية وعملية في وزن المقايضات وابتكار حلول متوازنة. وفي شخص ترمب، نجد نرجسيا متهورا يزدهر على الفوضى ويرفض الخبرة العلمية.

لنتأمل هنا استجابته للتحدي الذي تفرضه الصين: اقتراح فرض رسوم جمركية شاملة بنسبة 60% أو أكثر. وكما كان أي خبير اقتصادي جاد ليخبره، فإن هذا من شأنه أن يزيد الأسعار ــ ليس فقط أسعار السلع المستوردة مباشرة من الصين، بل وأيضا أسعار سلع أخرى لا حصر لها تحتوي على مُـدخلات صينية. وعلى هذا فإن الأميركيين من ذوي الدخل المنخفض والمتوسط سوف يتحملون العبء الأكبر من التكاليف. ومع ارتفاع التضخم واضطرار بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى رفع أسعار الفائدة، فسوف يتلقى الاقتصاد الضربة الثلاثية القاتلة المتمثلة في تباطؤ النمو، وارتفاع التضخم، وارتفاع البطالة.

ما يزيد الطين بلة أن ترمب تبنى الموقف المتطرف الذي ذهب إلى حد تهديد استقلال الاحتياطي الفيدرالي (وهو أمر غير مفاجئ، بالنظر إلى جهوده الدؤوبة لتقويض استقلال القضاء والخدمة المدنية). وبالتالي فإن رئاسة ترمب الثانية من شأنها أن تقدم مصدرا مستمرا لانعدام اليقين الاقتصادي، وتثبيط الاستثمار والنمو، وزيادة توقعات التضخم على نحو يكاد يكون مؤكدا.

ولا تقل سياسات ترمب الضريبية المقترحة خطورة. لنتذكر هنا التخفيض الضريبي لصالح الشركات وأصحاب المليارات في عام 2017، والذي فشل في تحفيز الاستثمار الإضافي وشجع فقط على إعادة شراء الأسهم. ورغم أن الجمهوريين لم يروا قط تخفيضا ضريبيا لصالح الأثرياء لم يلق استحسانهم، فقد أدرك قِلة منهم على الأقل أن هذه السياسة من شأنها أن تزيد من عجز الميزانية، ولهذا أضافوا فقرة تحدد تاريخ انتهاء العمل بها، والتي يبدأ سريانها في عام 2025. لكن ترمب، في تجاهل لكل الأدلة التي تؤكد أن التخفيضات الضريبية “المتقاطرة إلى الأسفل” فاشلة ولا تغطي تكلفتها، يريد تجديد ثم تعميق تخفيض عام 2017 بطرق من شأنها أن تضيف تريليونات الدولارات إلى الدين الوطني.

في حين لا يبالي زعماء الدهماء الشعبويون من أمثال ترمب بالعجز، يجب أن يشعر المستثمرون في الولايات المتحدة والخارج بالقلق. فالعجز المتزايد الضخامة الناجم عن الإنفاق غير المعزز للإنتاجية من شأنه أن يضيف إلى توقعات التضخم، ويقوض الأداء الاقتصادي، ويؤدي إلى تفاقم التفاوت.

على نحو مماثل، لن يكون إلغاء قانون خفض التضخم الذي كان علامة مميزة لإنجازات إدارة بايدن مؤذيا للبيئة وقدرة الولايات المتحدة التنافسية في القطاعات الـحَـرِجة المهمة لمستقبل البلاد فحسب؛ بل وسوف يؤدي أيضا إلى إلغاء التدابير التي خفضت تكلفة الأدوية، وبالتالي زيادة تكلفة المعيشة.

كما يريد ترمب (والقضاة الذين عينهم من أصحاب التوجهات التجارية) التراجع عن سياسات المنافسة القوية التي تنتهجها إدارة بايدن-هاريس، وهذا من شأنه ــ مرة أخرى ــ أن يزيد من اتساع فجوات التفاوت ويضعف الأداء الاقتصادي من خلال ترسيخ قوة السوق وخنق الإبداع. وهو يعتزم إلغاء المبادرات الرامية إلى زيادة فرص الحصول على التعليم العالي من خلال قروض طلابية أفضل تصميما ومرتبطة بالدخل، وهو ما من شأنه أن يُـفضي في نهاية المطاف إلى تقليص الاستثمار في القطاع الذي تحتاج إليه الولايات المتحدة أكثر من أي شيء آخر لمواجهة تحديات الاقتصاد الـمُـبدِع في القرن الحادي والعشرين.

يقودنا هذا إلى السمات الأكثر إزعاجا في أجندة ترمب فيما يتصل بنجاح أميركا الاقتصادي في الأمد البعيد. أولا، من شأن إدارة أخرى يترأسها ترمب أن تخفض تمويل العلوم الأساسية والتكنولوجيا، وهي مصدر ميزة أميركا التنافسية ومستويات المعيشة المرتفعة هناك على مدار المائتي عام الأخيرة. (غني عن القول إن قوة أميركا الاقتصادية لا تكمن في نوادي القمار، أو ملاعب الجولف، أو الفنادق الفخمة).

أثناء فترة ولايته السابقة، اقترح ترمب تخفيضات كبيرة في تمويل العلوم والتكنولوجيا كل عام تقريبا، لكن الجمهوريين غير المتطرفين في الكونجرس عَـطَّـلوا هذه التخفيضات في الميزانية. ولكن هذه المرة ستكون مختلفة، لأن الحزب الجمهوري أصبح أشبه بطائفة تعبد ترمب. الأسوأ من ذلك أن الحزب أعلن الجهاد ضد الجامعات الأميركية، بما في ذلك مؤسسات رائدة تعمل على تعزيز حدود المعرفة، واجتذاب أفضل المواهب من مختلف أنحاء العالم، والحفاظ على الميزة التنافسية التي تتمتع بها أميركا.

الأمر الأشد سوءا أن ترمب ملتزم بتقويض سيادة القانون، على المستويين المحلي والدولي. الواقع أن سجل ترمب الطويل في رفض دفع مستحقات البائعين والمقاولين يتحدث عن شخصيته: فهو شخص متنمر لا يتورع عن استخدام أي سلطة لديه لسرقة كل من يستطيع سرقته. لكن المشكلة تصبح أشد ضخامة عندما يدعم علنا متمردين عنيفين. إن سيادة القانون ليست مجرد شيء يجب أن نعتز به في حد ذاته: بل إنها شديدة الأهمية لاقتصاد وديمقراطية يؤديان وظيفتها على النحو السليم.

مع اقترابنا من خريف عام 2024، من المستحيل أن نعرف أي الصدمات قد يواجهها الاقتصاد في السنوات الأربع المقبلة. لكن الأمر الواضح هو أن اقتصاد عام 2028 سيكون أعظم قوة، وأكثر مساواة، وأشد مرونة وقدرة على الصمود إذا انتُـخِـبَـت كامالا هاريس.

* جوزيف ستيغليتز، حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وأستاذ بجامعة كولومبيا وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت. من كتبه: خيبات العولمة، وكتاب الناس والسلطة والأرباح: الرأسمالية التقدمية لعصر الاستياء، وكتاب ”الطريق إلى الحرية: الاقتصاد والمجتمع الصالح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى