صندوق النقد الدولي: إما الإصلاح أو الاضمحلال
تكمن المشكلات التي تعاني منها هذه المؤسسة في أساليب حوكمتها العتيقة. إذ تُـتَّـخَـذ أغلب القرارات الرئيسية، بما في ذلك تلك المتعلقة بالقروض المقدمة للبلدان، بواسطة الهيئة التنفيذية للصندوق، حيث تستأثر دول مجموعة السبع بمعظم السلطة. وتتمتع الولايات المتحدة بحق النقض بحكم الأمر الواقع، وتتفوق قوة اليابان التصويتية…
بقلم: راغورام ج. راجان
شيكاغو- إن العالم يحتاج إلى صندوق نقد دولي ناجح وفَـعّـال. فقد أصبحت البلدان مثقلة بالديون بشدة في أعقاب جائحة كوفيد-19، ويتنامى خطر حدوث صدمات جديدة مع ارتفاع درجات حرارة العالم وظهور مسببات أمراض جديدة. كما تشهد سياسات الحماية (التي تتخفى أحيانا تحت ستار المصالح الأمنية)، صعودا مضطردا، فتعوق مسارات التنمية التقليدية. ومع تعثر الاقتصادات، لا أحد يريد استيعاب اليائسين الذين يخوضون تحدي عبور الغابات الكثيفة أو يقفزون إلى قوارب متداعية ومكتظة بحثا عن سبل عيش لائقة.
نحن في احتياج إلى وسيط نزيه يساعد البلدان في التفاوض على قواعد عادلة للتبادل الدولي (بما في ذلك، وعلى وجه السرعة، قواعد تحكم إعانات الدعم)، ومحاسبة المخالفين، وانتقاد السياسات الرديئة، والتدخل كملاذ أخير للإقراض لأولئك الذين يمرون بمحنة. من المؤسف أن صندوق النقد الدولي، على الرغم من الجودة العالية التي تتمتع بها إدارته وموظفيه، أصبح على نحو متزايد في وضع سيئ لا يسمح له بالاضطلاع بهذه المهام.
تكمن المشكلات التي تعاني منها هذه المؤسسة في أساليب حوكمتها العتيقة. إذ تُـتَّـخَـذ أغلب القرارات الرئيسية، بما في ذلك تلك المتعلقة بالقروض المقدمة للبلدان، بواسطة الهيئة التنفيذية للصندوق، حيث تستأثر دول مجموعة السبع بمعظم السلطة. وتتمتع الولايات المتحدة بحق النقض بحكم الأمر الواقع، وتتفوق قوة اليابان التصويتية على قوة الصين التصويتية، التي يبدو اقتصادها عملاقا مقارنة باقتصاد اليابان. وحصة تصويت الهند أصغر كثيرا من حصة تصويت المملكة المتحدة أو فرنسا، حتى برغم أن اقتصادها أكبر حجما وينمو بسرعة أكبر مقارنة باقتصاد كل المملكة المتحدة وفرنسا.
ولأن القوى العالمية التي كانت مهيمنة في زمن سابق ترفض التخلي عن دورها، فإن تمثيل الاقتصادات الناشئة السريعة النمو المنقوص يظل قائما. من ناحية أخرى، لم يعد من الواضح ما إذا كانت القوى القديمة تضع المصلحة العالمية دوما في صميم اهتماماتها. ففي حقبة ما بعد الحرب مباشرة، كان بوسعنا أن نأتمن الولايات المتحدة، باعتبارها القوة الاقتصادية العظمى الوحيدة، على فرض قواعد اللعبة والبقاء في عموم الأمر فوق مستوى المهاترات. ولكن مع تنامي مخاوفها إزاء احتمالات استيلاء قوى أخرى على مكانتها، تحولت من حَـكَـم إلى لاعب. وبعد أن كانت ذات يوم نصيرة لفكرة مفادها أن الانفتاح يعود بالنفع على الجميع، أصبحت على نحو متزايد تريد الانفتاح وفقا لشروطها هي دون غيرها.
من المرجح أيضا أن تتدهور نوعية قرارات الإقراض التي يتخذها الصندوق. فحينما يقدم الصندوق القروض، من الطبيعي أن تميل البلدان التي تتمتع بعلاقات قوية والتي تواجه مشكلات اقتصادية إلى الحصول على قدر أكبر من الغوث بشروط أيسر. ورغم أن النفوذ السياسي كان يؤثر دوما على قرارات الإقراض التي يصدرها الصندوق، فإن فرص نجاحه كانت أعظم في الماضي بسبب المساعدة الخارجية من قِـبَـل أعضاء مجلس الإدارة الأقوياء ــ ولنتذكر على سبيل المثال الأزمة المكسيكية في عام 1994، حيث ساهمت الولايات المتحدة بحصة ضخمة في حزمة الإنقاذ.
مع ضيق الموارد المالية الآن حتى في مجموعة الدول السبع، سوف يضطر صندوق النقد الدولي على نحو متزايد إلى المخاطرة برأس ماله مع قيام أعضاء مجلس الإدارة الأقوياء، الذين لن يخسروا إلا أقل القليل في هذه اللعبة، بتوجيه القروض إلى الأصدقاء والجيران. أسوأ ما في الأمر أن مثل هذه المعاملة الخاصة قد لا تساعد حتى المتلقين للقروض، الذين يحتاج كثيرون منهم إلى بعض الحب الصارم.
الخلاصة أن بنية حوكمة صندوق النقد الدولي من شأنها أن تلحق الضرر بعمل الصندوق على نحو متزايد. ولكن ألن تُـفـضي إعادة توزيع حصص التصويت في صندوق النقد الدولي بحيث تعكس التوزيع الحالي للقوة الاقتصادية إلى الفوضى؟ ألن تحجب الصين القروض عن أي دولة مرتبطة بمجموعة الدول السبع، والعكس؟ أليست الإدارة المختلة وظيفيا أفضل من الشلل التام؟
ربما، وهذا هو السبب الذي يجعل أي إصلاحات تؤثر على قوة تصويت البلدان لابد وأن تكون مصحوبة بتغييرات جوهرية في حوكمة صندوق النقد الدولي.
فلا ينبغي للمجلس التنفيذي أن يصوت بعد الآن على القرارات التشغيلية، بما في ذلك برامج الإقراض الفردية. بل يجب أن تُـمـنَـح إدارة الصندوق العليا الحرية الكاملة في اتخاذ القرارات التشغيلية لصالح الاقتصاد العالمي، مع اضطلاع مجلس الإدارة بوضع المبادئ التوجيهية العامة وفحص مدى الامتثال لهذه المبادئ دوريا. الأمر الأكثر أهمية هو أن المجلس التنفيذي يجب أن يتحول إلى مجلس حوكمة، تماما كما هي الحال مع الشركات. ينبغي له أن يتولى تحديد التفويض التشغيلي للمنظمة، وتعيين وتغيير الإدارة ومراقبة الأداء العام؛ لكنه لن يتحكم في القرارات اليومية. ولابد وأن تكون كل القرارات التشغيلية غير مسيسة.
الواقع أن هذا ما كان جون ماينارد كينز ليفضل أن يراه في وقت تأسيس الصندوق. فخوفا من النفوذ الأميركي غير الـمُـسـتَـحَـق، اقترح كينز إنشاء مجلس غير مقيم، والذي كان ليعني في تلك الأيام التي كانت تتسم بضعف الاتصالات والسفر بالسفن البخارية إنشاء مجلس غير تنفيذي وإدارة مفوضة. لن يخلو الأمر من بعض الاعتراضات المتوقعة على هذا الاقتراح. أولها أن البلدان القوية سترفض تخصيص موارد دافعي الضرائب لديها للصندوق ما لم تتمكن من ممارسة سيطرة كاملة على استخدامها. لكن هذا هو على وجه التحديد ما تتوقع القوى المهيمنة في مجلس الإدارة أن تفعله بقية العالم. ما ينطبق على هذا يسري على ذاك.
يتمثل اعتراض آخر في أن القوى الناشئة مثل الصين قد لا توافق على تغيير بنية الصندوق الآن وقد أصبحت هي ذاتها على وشك اكتساب السلطة. ولكن إذا لم تتقبل أي تغيير، فلن تتقبله القوى القديمة أيضا. لم تُـسفِـر المراجعة العامة السادسة عشرة للحصص مؤخرا عن تغيير كبير في توزيع سلطة مجلس الإدارة. وينبغي لنا أن نتوقع مزيدا من ذات الشيء ما لم تتوصل القوى القديمة والقوى الناشئة إلى صفقة كبرى.
أخيرا، لن تشعر البلدان بالارتياح إزاء إنفاق الموارد المالية من قِبَل إدارة غير منتخبة قد تكون غير حساسة لاحتياجات شعوب العالم. لكن الاعتبارات السياسية ستظل تضطلع بدور ملموس. وسوف يتولى مديرو مجلس الإدارة، الذين تعينهم الحكومات، تعيين كبار مديري صندوق النقد الدولي وإصدار الأوامر العامة لهم، استنادا إلى التقييمات السياسية الصادرة عن حكوماتهم. على سبيل المثال، قد تصبح القواعد التي تحكم الإقراض أكثر تساهلا إذا ارتأى المديرون أن ذلك لائق.
الفارق هنا هو أن القواعد سوف تطبق بشكل موحد في كل البلدان. وسوف يظل بوسع أصدقاء المحتاجين الأقوياء أن يساعدوا، ولكن سيتعين عليهم القيام بذلك خارج برنامج الصندوق، وليس بتحريف القواعد. بعد ثمانية عقود من إنشاء صندوق النقد الدولي، يستطيع العالم ــ بل يتعين عليه ــ أن يسعى إلى التوصل إلى صفقة كبرى لإصلاح بنية إدارته والتعامل مع التحديات الناشئة. فالبديل هو القيام بأقل القليل ومشاهدة المؤسسة تضمحل إلى زوال.