أخبار عاجلة

الملحقيات لا تمثل الدولة بل تصوغها.. كيف تبنى الثروات من الوعي؟

الدكتورة مروة آل صلاح

عمان -في زمن لم تَعُد فيه الجيوش وحدها تصنع النفوذ، ولم تَعُد المؤشرات الاقتصادية الصلبة كافية لبناء صورة الدولة، يبرز سؤال جوهري يُعيد تشكيل العلاقات الدولية من الداخل: من يُتقن سرد نفسه أولا.. يكسب.

لم يعد التنافس في العالم على الموارد فقط، بل على المعاني، على الرموز، على القدرة الخلاقة للدولة في أن تُعيد إنتاج نفسها كقصة مُلهمة تستحق الإنصات والرهان. في هذا السياق المتحوّل، تقف الملحقيات الثقافية في صميم اللعبة الجديدة، لا بوصفها مكاتب خارجية مهمتها التعريف بالدولة، بل بوصفها أدوات سيادية ناعمة، تُعيد رسم تموضع الدولة في ذاكرة العالم، وتفتح دروبا جديدة غير مباشرة، لكنها بالغة التأثير، نحو الاستثمار والثقة والعائد القومي.

إن العلاقة بين الثقافة والاستثمار لم تعُد علاقة افتراضية أو نظرية، بل أضحت ملموسة في تجارب الدول التي راهنت على القوة الناعمة، وفازت بثقة الأسواق. معرض فني جيد التنظيم لا يقل أثرا، في بعض السياقات، عن مؤتمر اقتصادي. وسردية وطنية ذكية قد تُفضي إلى توقيع شراكة أكثر استدامة من كل الحملات الترويجية.

الملحقية الثقافية التي تفهم هذا، تتحرر من نموذج التمثيل التقليدي. لم تعد مجرد وسيط رمزي يُعيد إنتاج المشهد الثقافي للدولة في الخارج، بل منصة سيادية متكاملة تعيد صياغة الرواية الوطنية، وتُصمم نقاط التماس الحضاري التي تُلامس الآخر لا لتُقنعه، بل لتُشركه في تجربة رمزية متكاملة. إنها لا تُقارب الثقافة كعنصر زينة، بل كمكون جوهري من الهوية السيادية، بلغة معاصرة تعترف بالتحول وتستثمر فيه.

في زمن تتقاطع فيه الرمزية مع الجاذبية الشرائية، وتتماهى فيه الصورة الذهنية مع قابلية الدولة للاستثمار، تصبح الثقافة مدخلاً أساسياً لإنتاج الثقة، والثقة أرضية كل استثمار طويل الأمد. لا عجب إذا أن تتّجه بعض الدول إلى إدارة سمعتها الرمزية كما تدير سياساتها النقدية؛ بعناية، وذكاء، وتراكم محسوب. وفي قلب هذه المقاربة، تبرز الملحقيات كمحطات تصدير غير تقليدية، لا للمنتج فحسب، بل للرؤية، للهوية، وللقيم المترجمة إلى فرص.

وحين تنتقل الملحقية من تنظيم الأمسيات والندوات إلى بناء تجربة إدراكية تفاعلية، فإنها تخلق بيئة حية تُجذب إليها رواد الأعمال، والجامعات، وصنّاع القرار، وحتى المستثمرين الرقميين، الذين لا يتأثرون فقط بتقارير الأسواق، بل بما ترويه الدولة عن نفسها، وبكيف تُجسد هذه الرواية في سلوكها، في فنها، وفي رموزها.

لم يعُد من المجدي أن تكتفي الملحقيات بعرض الأزياء الشعبية أو العزف على العود. ما يُبهر العالم اليوم ليس الفولكلور وحده، بل قدرته على التحول إلى مشروع معرفي حي. قوة الملحقية تكمن في جرأتها على التجديد، في إدراكها أن الثقافة لا تُعرض، بل تُبنى وتُروى وتُختبر. حين تدخل التكنولوجيا إلى المشهد – من الميتافيرس إلى الذكاء الاصطناعي – تصبح الملحقية مختبرا لسرديات الغد، لا متحفا لذاكرة الأمس.

في الاقتصاد الحديث، أصبحت الهوية نفسها أصلاً إنتاجيًا. صورة الدولة، شبكة علاقاتها، لغتها، فنها، رموزها الشعبية.. كلها باتت تُشكّل رأسمالًا رمزيًا يُراكم حضورًا ويخلق عائدًا. فالدولة التي تجيد سرد ذاتها، لا تحتاج إلى الصراخ لتُسمع، ولا إلى المبالغة لتُقنع. إنها تخلق مناخًا من الطمأنينة الجاذبة، تنسج حضورها بتأنٍّ، وتراكم الأثر لا الضجيج.

لكن هذا التحوّل لا يمكن أن يُدار بعقلية المناسبات. بل هو فعلٌ سيادي طويل النفس، يتطلب من الملحقيات أن تتحرر من أداء المهمات، إلى قيادة السرد. أن تُدار بمنطق التصميم لا بردة الفعل. أن تُسأل لا فقط: ماذا سننظّم هذا الشهر؟ بل: ما الرسالة التي نبنيها للسنوات القادمة؟ من هو المتلقي الذي نريد أن نحاوره؟ وما اللغة التي يفهمها؟

وحين تصل الملحقية إلى هذه النقطة من النضج الاستراتيجي، فإنها لا تُسهم فقط في تحسين صورة الدولة، بل تُصبح رأس حربة في توسيع نطاق حضورها الاقتصادي، عبر روافد ناعمة ولكنها فعّالة. إنها تُحرّك الاقتصاد الرمزي للدولة، وتمنح سياساتها الاستثمارية بُعدًا ثقافيًا مُلهمًا، يُعبّر عن شخصية الدولة لا عن عرضها فقط.

بذلك، تتحوّل الملحقية من جهاز إداري تابع، إلى فاعل مستقل يمسك بمفاتيح التأثير، ويوظّف الفن والهوية والتقنية في خدمة الهدف الأسمى: ترسيخ السيادة الرمزية للدولة، وتحويلها إلى رافعة اقتصادية تُغني الخزينة بقدر ما تُغني الوعي.
وفي عالم تتساقط فيه التعريفات التقليدية للقوة، تصبح الثقافة الجيدة سياسة عامة، وتصبح الملحقية التي تُصغي وتُبدع وتُراكم الأثر، هي نفسها الصفقة الرابحة في اقتصاد المستقبل.

فحين تتحوّل الثقافة إلى أصل سيادي، وتصبح الرواية أداة استثمار، تنهض الملحقيات من الهامش إلى صُلب صناعة النفوذ.. ليس بوصفها مكاتب تمثيل، بل مختبرات لتصميم الوعي الاقتصادي الجديد للدولة.

* مستشار تطوير المدن الذكية والاقتصاد الرقمي

زر الذهاب إلى الأعلى