آراء إقتصادية

من الجريمة الصامتة إلى العدالة الذكية.. الفساد في زمن الرقمنة

د. مروة بنت سلمان آل صلاح

في عالم يتسارع فيه إيقاع التحولات، يبقى الفساد كظل ثقيل يرافق مسارات التنمية ويعكر صفوها. فهو ليس مجرد ممارسة فردية أو خطأ عابر، بل منظومة متشابكة تمتد جذورها في المؤسسات والإدارات، وتعيد تشكيل القوانين بما يخدم مصالح خفية، وتجعل العدالة عرضة للتأويل والمساومة. عبر التاريخ، كان الفساد يتخفى في زوايا مظلمة، حيث تدار الصفقات في الغرف المغلقة وتطوى الملفات على عجل، دون أن يملك المواطن العادي وسيلة لرؤية ما يجري خلف الستار. غير أن دخول الذكاء الاصطناعي على المشهد أحدث شرخا عميقا في جدار السرية، وفتح بابا جديدا نحو الشفافية، وكأن العالم ينتقل من زمن الظلال إلى زمن الضوء.

إن الفساد، حين ننظر إليه بتمعن، يتجاوز كونه انحرافا عن القيم ليصبح نظاما قائما بذاته. فهو يشبه شبكة عنكبوتية متينة، تتداخل خيوطها بين السياسة والاقتصاد والإدارة وحتى الثقافة. هذه الشبكة لا تقوم فقط على استغلال الثغرات، بل على صناعة ثغرات مقصودة يستفيد منها أصحاب النفوذ. في بيئات كهذه، يصبح الإصلاح مجرد شعارات ترفع في المؤتمرات، بينما الواقع يبقى غارقا في ممارسات يومية تلتهم مقدرات الشعوب وتعطل أحلامها.

غير أن المشهد يتغير مع بروز الذكاء الاصطناعي، وهو تحول لا يقتصر على امتلاك أدوات تقنية، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، وبين الفرد والمؤسسة. الذكاء الاصطناعي هنا ليس آلة جامدة، بل عقل تحليلي قادر على ربط النقاط الصغيرة التي قد تبدو عابرة، ليكشف صورة أوسع كانت مخفية عن الأعين. فحركة الأموال، وسير المعاملات، وتدفق الوثائق، كلها تتحول إلى إشارات يمكن قراءتها بلغة جديدة، لغة تجيدها الخوارزميات وتترجمها إلى أدلة لا يمكن إنكارها.

تخيل مؤسسة حكومية اعتادت أن تدار ورقيا لعقود طويلة، حيث يستطيع الموظف أن يغير رقما أو يؤجل توقيعا دون أن يلاحظه أحد. مع التحول الرقمي، يصبح كل إجراء مسجلا، وكل خطوة موثقة، حتى النقاط التي كانت تبدو هامشية تتحول إلى علامات فارقة تكشف مسارا غير سليم. الذكاء الاصطناعي لا يكتفي بالتسجيل، بل يحلل الأنماط، ويميز بين السلوك الطبيعي والانحراف غير المبرر. بهذه الطريقة، لا يعود الفساد قادرا على الاختباء في تفاصيل صغيرة، بل يجد نفسه أمام مرآة تعكس كل حركة بوضوح فائق.

القوة الحقيقية للذكاء الاصطناعي تكمن في أنه لا يتأثر بالضغوط ولا بالإغراءات. فبينما يمكن للبشر أن يغضوا الطرف أو يساوموا، فإن الخوارزميات تعمل بمنطق صارم، ترصد الاختلافات وتربطها دون تحيز. وهذا ما يجعلها أشبه بعين لا تنام، تتابع تدفق المعلومات لحظة بلحظة. هنا يظهر بعد جديد لمكافحة الفساد، ليس عبر ملاحقته بعد وقوعه، بل عبر تضييق المساحات التي يمكن أن ينشأ فيها منذ البداية.

لكن الطريق ليس معبدا بالكامل. فمقاومة الفساد لا تقتصر على كشفه، بل على مواجهة القوى التي تستفيد منه. وهذه القوى تدرك أن الذكاء الاصطناعي  يهدد نفوذها، لذلك تسعى إلى إبطاء التحول أو تشويهه. قد تغلف الأمر بادعاءات عن حماية الخصوصية، أو مخاطر الاختراق، أو صعوبة التمويل، لكن الحقيقة أن كل تأخير يصب في مصلحة من يريد أن يبقى الفساد مستترا. ومن هنا تأتي أهمية الإرادة السياسية والاجتماعية، فهي الضمانة الوحيدة التي تجعل من الذكاء الاصطناعي أداة للتغيير لا مجرد شعار.

الشفافية التي يتيحها الذكاء الاصطناعي ليست مجرد فتح سجلات أمام العلن، بل بناء ثقافة جديدة ترى أن المعلومات ملك للمجتمع وليست حكرا على قلة. في هذه الثقافة، يصبح المواطن شريكا في الرقابة، يمتلك أدوات للتأكد من أن الموارد تدار لصالحه لا لحساب آخرين. وهنا تتحقق نقلة نوعية: من شعور بالعجز أمام سلطة غامضة، إلى ثقة بأن هناك نظاما عادلا يحمي الحقوق.

السردية التي يصنعها الذكاء الاصطناعي ضد الفساد هي أشبه بانتقال من عالم ضبابي إلى آخر أكثر صفاء. لم يعد الأمر مجرد تقارير ورقية تملأ الأدراج، بل شبكة مترابطة تكشف العلاقات والصفقات والخطوط المتقاطعة. هذه القدرة على رؤية الصورة الكاملة تمنح المجتمع فرصة للتفكير بجرأة، لتصميم سياسات لا تعالج الأعراض فقط، بل تعيد هيكلة النظام بما يمنع المرض من العودة.

ورغم التحديات، فإن ما يميز هذه المرحلة هو أن أدوات مكافحة الفساد لم تعد حكرا على السلطات العليا. فالمبادرات المجتمعية، والمنصات التشاركية، والتطبيقات المفتوحة، كلها باتت جزءا من منظومة أوسع تتيح مراقبة الأداء ومساءلة المسؤولين. بهذا الشكل، يصبح الذكاء الاصطناعي ليس فقط حارسا للشفافية، بل أيضا وسيلة لخلق وعي جمعي جديد يرى في النزاهة قيمة لا يمكن المساومة عليها.

إن الطريق نحو عالم أكثر نزاهة لا يقوم على تقنيات وحدها، ولا على إرادة بشرية منفصلة عنها، بل على تزاوج الاثنين معا. حين تلتقي الخوارزميات بوعي المجتمع، وحين تدعم المؤسسات هذا اللقاء بإرادة صلبة، يتحقق التحول المنشود. عندها فقط، يتحول الفساد من شبح يطارد التنمية إلى قصة من الماضي، ويصبح الذكاء الرقمي شاهدا على بداية عهد جديد تقاس فيه قوة الدول بقدرتها على حماية مواردها من عبث النفوذ والسرية.

وفي الختام ، يبقى السؤال الأهم: هل نحن مستعدون لأن نرى كل شيء بوضوح؟ لأن الشفافية ليست مجرد كشف للفساد، بل إعادة بناء للثقة من أساسها. إنها لحظة فارقة، إما أن نستثمرها لنصنع مجتمعات أكثر عدلا، أو نهدرها فنجد أنفسنا عالقين في ذات الدوامة. والذكاء الاصطناعي، بقدراته غير المسبوقة، يقف أمامنا كمرآة، يعكس ما نخفيه وما نظهره، ويضعنا أمام خيار لا يقبل المراوغة: إما أن نواجه الحقيقة ونغيرها، أو أن نواصل العيش في الظلال.

*مطور للمدن الذكية والاقتصاد الرقمي

زر الذهاب إلى الأعلى