أخبار الفوركس والعملات الرقمية

الآثار الاقتصادية للكوارث الطبيعية

 

الدكتور جواد العناني

توقفت متأملاً في الحدث الأليم الذي ضرب المملكة المغربية في منطقة جبال أطلس الأسبوع الماضي، وحتى كتابة هذه السطور كان عدد الضحايا قد تجاوز (2500) شخص، والعدد نفسه تقريباً من الجرحى، والأرقام كانت ولا تزال مرشحة للتزايد، في ضوء عمليات الإنقاذ والبحث الجارية تحت أنقاض البنايات التي تهدمت بفعل الزلزال الذي سجل سبع درجات على مقياس ريختر. وبعضنا تذكر زلزال أغادير الذي وقع قبل أكثر من ثلاثة وستين عاماً (فبراير 1960)، وأدى إلى دمار كبير وقتل أكثر من (15) ألف نسمة.

لقد كثرت حوادث الأعاصير والزوابع والتسونامي والزلازل والفيضانات والانهيارات والحرائق الناتجة عن تقلبات الطبيعة حتى باتت في تعدادها ومصائبها تذكرنا بالجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، ولا نكاد نخرج من واحدة ونتابعها بتركيز حتى تحصل قضية جديدة تطوي ما قبلها، وتتكرر اللغة تعليقاً على كوارث الطبيعة والجرائم الإسرائيلية.

وقد قام موقع “ويكيبيديا” عام 2005 بتصنيف أكبر الكوارث وأعظمها منذ البدء بتسجيل هذه المصائب. وبحسب الموقع، فإن أكبرها حصل عام 1931 وهو الفيضانات الجبارة التي حصلت في الصين، وأودت بحياة أكثر من 4 ملايين شخص، والحدث الثاني حصل كذلك في الصين عام 1887 حين تدفقت مياه النهر الأصفر بجبروت أدى إلى وفاة مليوني شخص.

وقد سجلت القارة الآسيوية (الصين وشبه جزيرة الهند) أكبر هذه الكوارث قتلاً وتدميراً. ولولا زلزال هايتي عام 2010 وزلزال أنطاكيا عام 526 ميلادي لتركزت هذه الكوارث كلها في الهند وباكستان وبنغلادش والصين.

وفي ضوء تكاثر هذه المصائب وتواترها، فإن المرء قد يتساءل: هل لا يزال وضعها في العقود بأنها ظروف طارئة (force majeure) صحيحاً؟

لقد بات من الضروري أن يقوم كل مستثمر وكل شركة تأمين في العالم بالاستعانة بمراكز الرصد الدولية، وحساب درجة المخاطرة الطبيعية التي قد تنجم عن وضع استثمارات في المناطق الهشة، أو المناطق الأكثر عرضة لمثل هذه الكوارث الطبيعية.

ومثلما هناك مخاطر سياسية، ومخاطر اجتماعية، وأخرى عسكرية. فهناك مخاطر طبيعية، والتي ساهمت بآثارها التصدعية على البيئة في زيادة الاهتمام بدراسة الكوارث.

ولم يكن الاقتصاديون أقل اهتماماً بهذا الموضوع الذي قلما يثار في الوطن العربي، فهو لا يدرس في الجامعات العربية حسب معلوماتي، وهناك ثورة في البحوث المتعلقة بتقدير الخسائر والكلف الناتجة عن هذه الكوارث، وما تحدثه من آثار اقتصادية فادحة.

ولقد قمت لأغراض هذا المقال باستعراض كثير من الأبحاث المنشورة عن تطور أدوات قياس الخسائر والكلف، ونماذجها المختلفة، ووجدت أن الاقتصاديين قد أعطوا هذا الموضوع حقه من الدراسة والتطوير في الدول الغنية.

ووجدت أن من أوائل الدراسات التي ركزت على هذا الأمر ووضع إطار نظري له، كانت صادرة عن البنك الاحتياطي الفيدرالي في مدينة سانت لويس بولاية ميسوري الأميركية.

وفي عام 1994 نشر أحد الباحثين في البنك المركزي واسمه كيفن كلايسين (K.Kliesen) بحثاً موسوماً “اقتصاديات الكوارث الطبيعية”، وقام البنك بنشره في حينه.

وقد سعى الكاتب إلى تحديد العناصر التي تؤثر في حجم الخسارة الناجمة عن الكوارث الطبيعية. وقال إن هذه تتفاوت كثيراً بحسب مدة الكارثة وشدتها ومكان وقوعها، ونوع الكارثة حيث إن الزلازل وارتداداتها لا تمتد إلا لفترة قصيرة، بينما الفيضانات يطول أمدها. وميز الكاتب بين الآثار المباشرة للكارثة، مثل عدد الموتى والجرحى، وحجم الدمار في المنازل، والمنشآت، والبنى التحتية وغيرها.

وهناك آثار غير مباشرة قد تتمثل في تدمير كثير من الأعمال وانتقالها، وكذلك عدد السكان الذين قد ينزحون من المنطقة، وقدرة الدولة على تمويل إعادة البناء، ومدى توفر التغطية التأمينية، وسرعة الاستجابة للمتطلبات.

ولا يفوت الكاتب في هذا المجال أن يذكرنا بما قاله الاقتصادي الكلاسيكي البريطاني جون ستيوارت ميل (J.S.Mill) والذي قال وأتحمل أنا مسؤولية الترجمة من الإنجليزية إلى العربية “ومن المثير للدهشة هي السرعة العظيمة التي تبديها الدول التي عانت من الكوارث الطبيعية والحروب والزلازل والأعاصير على إعادة البناء والتخلص من الآثار السلبية لهذه الكوارث”، أو ما يسميه بعض الباحثين “الرغبة الجامحة في الحياة”، وآخرون نعتوها بـ “الطاقة المتكاملة والتنسيق الوطني الذي يظهر على سلوكيات الأهالي لإعادة البناء بعد الكوارث، سواء كانت من صنع الطبيعة أم من صنع الإنسان.

وقد قامت جامعة شيكاغو في الولايات المتحدة بإعداد بحث عام 2019 لخصت فيه أهم النماذج المستخدمة في قياس الخسائر على مستوى الاقتصاد الكلي، والناتجة عن الكوارث والمصائب الطبيعية. وقد استخدموا الأسلوب الإحصائي المباشر لتقدير الخسائر من مصادر مختلفة مثل شركات التأمين، ومراكز الطوارئ الوطنية في بلدان معينة.

ولكن هذه المصادر ليست مؤهلة لتعطي تقديراً دقيقاً للخسائر. وذلك لأنها لا تميز بين الخسائر والكلف. فالخسائر هي تلك المباشرة وغير المباشرة الناجمة عن الدمار والموت وإعادة التوزيع الناتجة عن الحدث الجلل. أما التكاليف فهي مقدار المبالغ المطلوبة لإعادة البناء، وترميم الهياكل الفوقية والتحتية والمرافق المائية والكهربائية والهاتفية التي تدمرت أو تعطلت بفعل الكارثة.

ولذلك لجأ الاقتصاديون القياسيون إلى تبني نماذج مختلفة، ومنها على سبيل المثال نماذج الرفاه أو “Welfare models”، ومنها النماذج المبسطة، ومنها نموذج يسمى (0-1)، أو (صفر – واحد) القائم على نظرية المصفوفات وحسابات الناتج المحلي الإجمالي. ولكن هذا النموذج لا يسمح بالقياسات الديناميكية.

ولهذا طور الاقتصاديون نموذج (CGE)، وهذه الأحرف هي اختصار للمصطلح باللغة الإنجليزية modeling Computer Generated Equilibrium. وهذا نموذج كثير المعادلات وقائم على نظرية التوازن في العرض والطلب، ويسمح بإدخال متغيرات حقيقية، ومعادلات سلوكية، تعطي النموذج مزيداً من المرونة.

ولكن هذا النموذج أعيد تطويره ليصبح أكثر دينامية، وأوسع تقديراً للخسائر المترتبة على مختلف القطاعات في الاقتصاد الوطني، والناجمة عن الكوارث، وما يميز النماذج الديناميكية هو أنها تقيس الخسائر عبر فترات زمنية لاحقة، حيث إن أثر أي كارثة يتفاوت مع تغير الزمن، وهذا يمكن أن يتمثل في إلقاء حجر في بركة ماء، فتحصل نتيجة لهذه الهزة ارتدادات في سطح الماء على شكل دوائر.

وقد يأخذ الباحث أثر كل دائرة إلى أن يصل الدائرة الخامسة، وعندها يكتفي لأن هذه الدوائر تكون قد استوعبت معظم الأثر المهم لرمي الحجر في البركة.

وبحسب دراسة أجراها البنك الدولي، فإن الخسائر السنوية الناجمة عن المخاطر الطبيعية تقدر حالياً بحوالي (520) مليار دولار أو بزيادة (60) عن الخسائر المباشرة الناتجة عن تدمير الأرصدة المحسوسة والعائدة ملكيتها للدولة أو للقطاع الخاص والأسر. وتتمثل هذه الزيادة في الخسائر الاستهلاكية والخسائر البشرية والاقتصادية منها.

وبحسب المصدر، فإن أكبر الخسائر نجمت في الفترة الحالية عن زلزال وتسونامي توهوكو “Tohoku” عام 2011، والذي قدرت خسائره بثلاثمائة وستين مليار دولار.

وفي دراسة نادرة عن الخسائر المترتبة عن الكوارث الطبيعية لمنطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا (مينا) قدر البنك الدولي أن عدد الكوارث قد زاد عام 2010 إلى ثلاثة أضعاف ما كان عليه عام 1980.

وقد تركزت معظم هذه الحوادث في ست دول عربية، هي الجزائر، جيبوتي، مصر، إيران، المغرب، اليمن. ويعزى السبب إلى ارتفاع وتيرة التمدين (urbanization)، وسرعة انتقال الناس للعيش في المدن، حيث تكون أكثر عرضة وهشاشة حيال تلك الكوارث، وتصيب أعداداً أكبر من الناس، وتدمر كثيراً من البنى التحتية والفوقية في تلك التجمعات السكانية عالية الكثافة.

وإذا أضفنا إلى كل هذا ما حذر منه الأمير الحسن بن طلال من احتمالات حدوث كارثة طبيعية كبرى في منطقة منخفض وادي الأردن، والتي نشرت عنها مقالاً في “العربي الجديد” بتاريخ 20/ يوليو/ 2023 فإن الحاجة باتت ماسه إلى إنشاء مركز عربي متخصص في دراسة الكوارث الطبيعية، وقياس كلفها وآثارها الاقتصادية، والاجتماعية والنفسية والديمغرافية، لوضع استراتيجيات للتحوط ضد الآثار الكارثية التي يمكن أن تنتج عن احتمالية كهذه.

ونحن في الوطن العربي لقينا ما يكفينا وأكثر من المصائب والبلاوي التي عانينا منها منذ عام 2011 وحتى الآن. ولا بد من أن تبدأ الجامعات بإجراء دراسات لتقدير الخسائر الناجمة في الوطن العربي عن الكوارث، سواء نتجت عن الإنسان أو الطبيعة. والاستهانة بهذا الموضوع قد تكون هي الكارثة بحد ذاتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى