آراء إقتصادية

المواطنة الرقمية: انتماء يعبر حدود الزمان والمكان

د. مروة بنت سلمان آل صلاح

في زمن تتسارع فيه التحولات الرقمية وتتشابك فيه العوالم الواقعية مع الافتراضية، تتجلى المواطنة الرقمية كأحد أعمدة الانتماء الأصيل، ومعيار حضاري يقيس مستوى وعي الأفراد بمسؤولياتهم تجاه وطنهم وقيادتهم ومجتمعهم. لم تعد المواطنة في عصرنا مقتصرة على حمل الهوية أو الالتزام بالقوانين، بل اتسعت لتشمل فضاءات لا نهائية، حيث تتحول الكلمة إلى موقف، والمعلومة إلى أمانة، والانتماء إلى ممارسة يومية تترجم في كل تفاعل على المنصات الرقمية. وهنا يبرز الأردن، بتاريخ ضارب في الجذور ورؤية متجددة، كأنموذج قادر على المزج بين أصالة القيم وروح المستقبل الرقمي.

إن الحديث عن المواطنة الرقمية ليس تنظيرا أكاديميا مجردا، بل هو مشروع لصياغة شخصية وطنية مسؤولة تدرك أن الفضاء الإلكتروني ليس عالما موازيا معزولا، بل امتداد حيوي للواقع ومرآة صادقة له. فكل ما ينشر أو يتداول إنما يعكس الهوية الفردية ويعيد تشكيل صورة الوطن أمام العالم. ومن هنا تصبح التربية الرقمية الرصينة، التي تبدأ من البيت وتغذى في المدرسة وتعزز عبر الإعلام والمؤسسات، صمام أمان يحمي الوعي الجمعي من التشتت ويحوله إلى درع واق ضد الاختراقات الفكرية والمعلوماتية.

ولأن الانتماء للوطن ليس شعارا يرفع في المناسبات، فإن المواطنة الرقمية تعيد تعريفه كممارسة ملموسة تنعكس في أسلوب إدارة النقاشات، في طبيعة تداول الأخبار، وفي القدرة على التمييز بين ما يبني وما يهدم. المواطن الرقمي الواعي يجعل من قلمه الإلكتروني سلاحا نبيلا، ومن حكمته سياجا يحول دون الانجرار وراء الفتن الرقمية، ومن وعيه بوصلته التي تهديه نحو المصلحة العامة. وهكذا يتجلى الأردن كدولة راسخة الهوية، قادرة على مواجهة العواصف بما تمتلكه من قيادة حكيمة وشعب أصيل.

إن دعم القيادة عبر الفضاء الرقمي لا يعني الاكتفاء بعبارات الثناء، بل يتجسد في تحويل الإنجازات الوطنية الكبرى إلى سرديات معاصرة يفهمها الجيل الرقمي، وفي توظيف المنصات الحديثة لنقل الرؤية الإصلاحية والاستراتيجية بلغة الحاضر. كل مبادرة وطنية تحتاج إلى من يترجمها بوعي إلى خطاب رقمي مؤثر، وكل إنجاز يحتاج إلى أصوات أمينة ترويه للعالم بثقة، وكل مشروع دولة حديثة لا يكتمل إلا حين يصبح المواطن شريكا في صياغة روايته وتبني مساره.

وفي مواجهة التحديات الرقمية، تتقدم الإشاعات كأخطرها وأكثرها فتكا بالثقة الوطنية. فالتلاعب بالمعلومة قد يكون أعمق أثرا من أي تهديد مادي، إذ يضعف المعنويات ويزعزع الاستقرار. هنا تبرز قيمة المواطن الرقمي الواعي، القادر على كشف التضليل ومواجهته لا بردود انفعالية، بل بمحتوى أصيل يستند إلى الحقائق ويعزز الثقة. فالمجتمع لا يحصن من الخارج عبر التشريعات وحدها، بل من الداخل عبر نضج أفراده واستعدادهم لتشكيل خط الدفاع الأول ضد الفوضى المعلوماتية.

وما يميز الأردن أن قيم الانتماء ليست طارئة أو مكتسبة عرضا، بل متجذرة في ضمير أبنائه منذ الصغر. فالطفل يتعلم حب وطنه قبل أن يتعلم الحروف، والشاب ينشأ وهو يرى قيادته نموذجا في الثبات، والبالغ يترسخ في وجدانه أن الوطن مسؤولية لا تفرط ولا تساوم. والمواطنة الرقمية ليست مجرد انتقال لهذه القيم إلى الإنترنت، بل توسيع لمداراتها حتى تصل إلى جمهور عالمي، فيصبح الأردني أينما كان سفيرا رقميا لبلاده، يعرض هويتها بلغة العصر ويمنحها حضورا رقميا لائقا بمكانتها.

وفي قلب هذا البناء، يقف الشباب الأردني كركيزة استراتيجية. فهم أبناء التكنولوجيا وورثة المستقبل، الأقدر على تحويل الأدوات الرقمية إلى منصات ابتكار وإبداع. حين يوجهون طاقاتهم نحو صناعة محتوى يرفع صورة وطنهم، أو ابتكار مبادرات رقمية تعالج قضايا مجتمعية، أو قيادة حملات توعوية لمواجهة التضليل، فإنهم لا يمارسون نشاطا عابرا، بل يرسخون فعلا وطنيا راقيا يعزز مكانة الأردن في المشهد الرقمي العالمي.

أما الإعلام الوطني، فإنه يشكل بوصلة المواطنة الرقمية. حين يضع الحقائق أمام الناس بموضوعية وشفافية، ويوازن بين سرعة النشر وصدق المعلومة، يصبح الحاضنة التي تحمي الرأي العام من التشويش، وتجعل المواطن أكثر ثقة بسرديته الوطنية. الإعلام الملتزم بميثاق أخلاقي صارم، والذي يقدم التثقيف على الإثارة، يشكل السياج الذي يمنع تسلل الأخبار المضللة ويمنح المواطن وعيا يحصنه من الانجرار خلف الروايات المغلوطة.

وإذا نظرنا إلى المواطنة الرقمية كمنظومة شمولية، نجدها تتجسد في أبعاد متكاملة: سياسيا، هي أداة سيادة وحماية للأمن الوطني، إذ يشكل المواطن الواعي خط الدفاع الأول ضد الاختراق المعلوماتي والتأثيرات الخارجية. اقتصاديا، تتحول إلى رافعة للإنتاجية، حيث يسهم المواطن المتمكن في دفع عجلة الاقتصاد الرقمي عبر ريادة الأعمال، وتطوير المحتوى المحلي، واستخدام الأدوات المالية الحديثة بمسؤولية. ثقافيا، تغدو جسرا حضاريا يحفظ الهوية ويعيد تقديمها للعالم برؤية معاصرة، من خلال رقمنة التراث وبناء جسور تواصل عابرة للحدود من دون أن يذوب الجوهر أو تضيع الخصوصية.

إن المواطنة الرقمية الواعية ليست سلوكيات فردية معزولة، بل مشروع وطني متكامل يبني وعيا جمعيا قادرا على توحيد المجتمع مع قيادته. وكلما تعمق هذا الوعي، ازداد الوطن منعة، وأصبح الأردني أقدر على حمل رسالته للعالم: أن الأردن وطن لا يشوه، قوي بقيادته، عزيز بشعبه، راسخ بانتمائه.

وفي الختام، من قلب امرأة عربية أردنية أصيلة، أقول إن الانتماء الحقيقي لا يقاس بكثرة ما نكتب أو نقول، بل بصدق ما نحمل في دواخلنا وما نترجمه في أفعالنا. المواطنة الرقمية ليست رفاهية، بل عهد بين المواطن ووطنه، عهد يتجدد مع كل تفاعل ومع كل كلمة ومع كل موقف. وحين نكون أمناء في فضائنا الرقمي كما نحن في واقعنا، فإننا لا ندعم قيادتنا بالكلام، بل نكون سيفها في الميدان ودرعها في مواجهة الإشاعات. إنني أؤمن أن الأردن، بما يحمله من تاريخ مشرف وقيم راسخة وقيادة حكيمة، قادر على أن يكون نموذجا عالميا في المواطنة الرقمية الواعية. ومهما تغيرت العصور، سيظل حب الأردن هو البوصلة التي توجهنا، والانتماء هو اللغة التي نوحد بها قلوبنا، والمواطنة الرقمية هي الطريق الذي نعبر به بثقة نحو المستقبل، حاملين في أرواحنا يقينا لا يتزعزع بأننا أبناء وطن لا يعرف الانكسار.

*مطور للمدن الذكية والاقتصاد الرقمي

زر الذهاب إلى الأعلى