بورصة لندن أمام تحديات المنافسة المتصاعدة
ستوك نيوز – بات لسوق الأسهم – المعروفة بصورة أكثر شيوعا وانتشارا وشعبية باسم البورصة – أهمية متزايدة في النشاط الاقتصادي، فالوظيفة الجوهرية للبورصات هي تقييم الأوراق المالية “الأسهم” عبر توفير مكان يتيح للمستثمرين التداول من خلال بيع وشراء الأسهم.
ولا شك أن هذا الدور – مع اتساع نطاق النشاط الاقتصادي على المستويين المحلي والدولي، وتزايد أعداد المستثمرين، والإمكانات التي تتيحها التكنولوجيا لتنويع النشاط الاقتصادي، وإضفاء أبعاد متعددة عليه – جعل دور البورصات أكثر تطورا وأهمية، وتعقيدا في الوقت ذاته.
فالحركة في سوق الأسهم لديها تأثير عميق في الاقتصاد والمستهلكين في آن واحد، وبقدر ما يبعث انتعاش البورصة من إشارات إيجابية إلى المستثمرين بأن الأوضاع الاقتصادية مزدهرة، فإن انهيار أسعار الأسهم يتسبب غالبا في اضطراب اقتصادي واسع النطاق.
لكن الأهمية الراهنة لأسواق المال أو البورصات ليست وليدة اللحظة، إنما نتاج تاريخ يمتد إلى قرون بما يتضمنه من لحظات ازدهار وأخرى للانهيار، لتقود جميع تلك التطورات مسيرة البورصة وتضعها في المكانة التي وصلت إليها الآن، وأضحت رمزا من رموز الاقتصاد الرأسمالي الحر.
ولا تعد بورصة لندن أقدم بورصات العالم، إذ يمكن العودة بتاريخ البورصات إلى مدينة أنتويرب البلجيكية، حيث أسست عائلة “فان در بورصن” التي اشتق منها لاحقا اسم بورصة، أول سوق مالية في التاريخ، في القرن الـ16.
مع هذا تحظى بورصة لندن بمكانة وأهمية خاصتين في أسواق الأسهم العالمية، رغم أن بدايتها التاريخية لم تكن تنبئ بأنها ستصل في يوم من الأيام إلى المكانة التي وصلت إليها حاليا.
من جهته، يقول لـ”الاقتصادية”، أرثر ماتيس أستاذ سابق في التاريخ الاقتصادي ومحلل مالي، “مثل عديد من المؤسسات المالية البريطانية، نشأت بورصة لندن بشكل غير رسمي، ولم تكن منظمة من قبل الحكومة، فالبورصة الملكية تأسست عام 1571، لكن السلطات لم تسمح لما يزيد على قرن للسماسرة بدخول البورصة، حيث عدتهم غير أمناء وسلوكهم يتسم بالفظاظة، فما كان منهم إلا العمل من مقهى مجاور، وكانت المزادات تجرى في المقهى حتى عام 1698”.
ويضيف “وكان المشاركون يعتمدون على حساب وقت المزاد من خلال احتراق جزء من شمعة يقدر ببوصة، ومع احتراق هذا الجزء كان ينتهي المزاد على سلعة ويبدأ مزاد على سلعة أخرى، إلا أن السماسرة والمضاربين قاموا عام 1773 ببناء مبنى جديد يضم أيضا مقهى، وخلال أعوام وتحديدا عام 1801 ولدت بورصة لندن رسميا، وبعد عام من الإعلان الرسمي عن تأسيسها، انتقلت إلى مبنى آخر جديد، وكان تدفق المعلومات المالية عام 1830 عبر التلجراف الكهربائي لإرسال أسعار السلع، إضافة إلى تعليق إعلانات الشركات على لوحة الإعلانات في بورصة لندن، واحدة من اللحظات الثورية الأولى في تاريخها، كما أنها أفلحت لاحقا في البقاء على قيد الحياة رغم الحرب العالمية والتفجيرات التي قام بها الجيش الجمهوري الإيرلندي”.
لكن بين عام 1914 عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى وعام 1990 عندما دمرت قنبلة زرعها أعضاء الجيش الجمهوري الإيرلندي المنطقة المخصصة للعامة لمشاهدة أعمال البورصة وتداول الأوراق المالية، تاريخ طويل ومتشابك، تتداخل فيه أعمال البورصة مع ازدهار وانكماش الاقتصاد البريطاني.
فبحلول الحرب العالمية الأولى كانت لندن أكبر مركز مالي عالمي، وكانت بورصتها الأكبر عالميا، وعلى الرغم من أن البورصة أغلقت خمسة أشهر في بداية الحرب، وتم تقييد التداول عند إعادة فتحها، فإنه بحلول الحرب العالمية الثانية كانت أكثر نضجا وقدرة على التعامل مع ظروف الحرب، فلم تغلق غير ستة أيام في بداية الحرب، وواصلت النشاط رغم قصفها عام 1940.
وإذا كان الانتقال إلى صرح جديد من 26 طابقا عام 1972 مؤشرا على مرحلة جديدة، فيمكن الجزم بأن ثمانينيات القرن المنصرم جلبت معها أكبر هزة في تاريخ بورصة لندن.
يقول لـ”الاقتصادية”، أرثر راسل الخبير المصرفي، “أدخلت حكومة تاتشر سلسلة من التغييرات المعروفة باسم الانفجار الكبير، ألغت بمقتضاها التمييز بين أصحاب الأعمال والوسطاء، وتم إلغاء العمولة الثابتة، ولم تعد تسمع في البورصة صرخات التداول، إذ حل محلها تداول إلكتروني قائم على الشاشة، ولاحقا أطلقت البورصة سوق الاستثمار البديلة للسماح للشركات النامية بالتوسع في الأسواق الدولية”.
وبحلول عام 2004 انتقلت بورصة لندن مرة أخرى إلى مقر جديد، وترافق ذلك مع تحولها عام 2007 إلى شركة لتسجل داخل السوق التي تديرها، لكن التطور الأهم كان اندماجها مع البورصة الإيطالية في أيلول (سبتمبر) عام 2009 لتوجد بذلك كيانا جديدا باسم “مجموعة بورصة لندن”.
لكن المفوضية الأوروبية حالت قبل ثلاثة أعوام من اندماج بورصة لندن مع “دويتشه بورصة” الألمانية، في صفقة كان من الممكن أن تسفر عن إنشاء إحدى أكبر أسواق التداول في أوروبا، إذ كان سيؤدي هذا الاندماج إلى أن يكون مؤشر فوتسي 100 البريطاني، وستوكس 600 الأوروبي، ومؤشر داكس جميعها تصدر عن بورصة واحدة.
هذا تاريخ طويل وتجربة عميقة تضع بورصة لندن في مقدمة البورصات العالمية، فالسوق الرئيسة لها إحدى أكثر أسواق الأسهم تنوعا في العالم.
وحول عوامل القوة التي تعزز مكانتها بين أسواق الأسهم الدولية تعلق لـ”الاقتصادية”، إيما فيرث الخبيرة الاستثمارية قائلة، “القيمة السوقية لبورصة لندن قدرت بنحو 4.5 تريليون دولار عام 2018، ولديها أحد أشهر المؤشرات في العالم، فمؤشر فوتسي 100 الذي أطلق في كانون الثاني (يناير) 1984 بقيمة إجمالية 160 مليار جنيه استرليني، اليوم يتجاوز تريليوني جنيه استرليني، وهذا دليل نمو هائل لأسواق المال العالمية في المملكة المتحدة”.
وعلى الرغم من الصعوبات والمنافسة المتصاعدة التي تواجهها بورصة لندن من عدد من أسواق المال في الاقتصادات الناشئة مثل بورصة شنغهاي على سبيل المثال، فإن لندن لا تزال مركز أوروبا الأول لتمويل الأسهم، وتستأثر بنحو ربع متوسط الحصة اليومية من الأسهم البالغة 33 تريليون يورو، تم تداولها قبل جائحة كورونا، كما أن لندن تعد أكبر سوق للاكتتابات العامة الأولية في القارة الأوروبية.
لكن هذا لا ينفي أن بعض المحللين الاقتصاديين يعتقدون أن هناك حاجة ماسة من قبل بورصة لندن إلى التعامل بفاعلية أكبر مع التحديات التي يشهدها الاقتصاد في أعقاب الخروج من الاتحاد الأوروبي، إضافة الى ما نجم عن جائحة كورونا من تداعيات اقتصادية سلبية.
بدوره، يؤكد لـ”الاقتصادية”، تامبي دانيال الخبير الاقتصادي، أنه خلال العام الماضي غادر عدد كبير من الشركات السوق الرئيسة لبورصة لندن أكثر من الشركات التي انضمت إليها، كما أن الشركات البريطانية التي تحقق جزءا كبيرا من أرباحها من الأسواق الأمريكية تخطط للخروج من المملكة المتحدة، وفي سبتمبر الماضي، كان لدى بورصة لندن 25 طرحا عاما أوليا مقابل 55 في العام السابق، وبلغ إجمالي عمليات جمع الأموال 19 مليار جنيه استرليني العام الماضي مقارنة بـ22 مليار جنيه عام 2018.
تبدو تلك المخاوف المدعومة بالأرقام مشروعة، لكن السياق العام للاقتصاد البريطاني والاقتصاد العالمي كله، قد يشير إلى أن الأمر لا يتجاوز وعكة مؤقتة، إذ إن لندن لا يزال لديها كثير من المعجبين خاصة بين شركات الأسواق الناشئة الساعية إلى إدراج أسهمها في بورصتها.
وعند تحليل بيانات الإدراج يتضح أن سوق الأوراق المالية في بريطانيا تجذب بشكل متزايد شركات من خارج أوروبا، وعليه ففي نهاية المطاف تستمد بورصة لندن جزءا كبيرا من قوتها من السمات التي تتمتع بها لندن ذاتها، وهي سمات يراهن المسؤولون البريطانيون على أنه يصعب أو يستحيل تكرارها في مكان آخر.