سد الفجوة بين العمل المناخي وجهود التنمية
بقلم: داني رودريك، إسحاق ديوان
تناضل البلدان المنخفضة الدخل في مواجهة ضائقة السيولة التي لا تقوض جهود التنمية الاقتصادية التي تبذلها فحسب بل وتعمل أيضا على تعميق أزمة المناخ العالمية. في عامي 2020 و2021، كان صافي التحويلات المالية إلى أفريقيا أقرب إلى الصِـفر ــ وهو أدنى مستوى في عشر سنوات ــ على الرغم من التحويلات غير المسبوقة من بنوك التنمية المتعددة الأطراف. كان هذا الهبوط راجعا إلى انخفاض القروض من القطاع الخاص والصين، والآن ازداد الموضع تدهورا، مع خسارة كل البلدان المنخفضة الدخل وذات الدخل المتوسط الأدنى القدرة على الوصول إلى سوق السندات. من ناحية أخرى، تسبب ارتفاع فواتير الغذاء والوقود وانخفاض عائدات التصدير في زيادة الأمور سوءا على سوء.
من المؤكد أن حفنة فقط من البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل عجزت عن سداد ديونها الخارجية، ولا تزال بلدان أخرى كثيرة تأمل في التمكن من الصمود في وجه العاصفة والعودة إلى دخول السوق عندما يُـعاد فتحها. ولكن مع نمو التزامات خدمة الديون بشكل أكبر كثيرا من الدعم الرسمي الذي يمكنها تأمينه، أصبح الحيز المالي المتاح لها ضيقا، الأمر الذي يؤدي إلى اندلاع أزمة تنمية صامتة.
في الوقت ذاته، تشير بعض التقديرات إلى أن الاحتياجات العالمية لتمويل جهود التنمية والعمل المناخي ارتفعت إلى تريليون دولار سنويا. لم تكن الفجوة بين طموحات المجتمع الدولي للاقتصادات الأكثر فقرا والواقع المحزن الذي أصبحت عليه مواردها المالية على هذا القدر من الاتساع من قَـبل قَـط، ولم يسبق لهذه الفجوة قط أن تسببت في تآكل شرعية النظام المالي العالمي بهذه الدرجة.
سعت سلسلة من التجمعات الدولية ــ والتي بلغت أوجها بإعلان مجموعة العشرين الأخير ــ إلى إصلاح البنية المالية والتنموية العالمية، مع التركيز بشكل خاص على توسيع نطاق الدعم الذي تقدمه بنوك التنمية المتعددة الأطراف. ولكن إذا ارتفع تمويل بنوك التنمية المتعددة الأطراف قبل حل أزمة الديون الحالية، فلن يذهب قسم كبير من هذه الأموال الإضافية نحو استثمارات في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، بل إلى دائنين آخرين، كما هي الحال الآن.
أثناء الجائحة، تكهن عدد كبير من المراقبين بأن حالات إفلاس ضخمة تلوح في الأفق. وعلى الرغم من المقترحات الواعدة المقدمة للتخفيف من أعباء الديون بالجملة، فشل قادة العالم في الاتفاق على حلول طموحة. ومنذ ذلك الحين، تسببت الصعوبات الطاحنة التي أحاطت بجهود التوصل إلى اتفاق على صفقات الديون بشكل انتقائي في تثبيط معنويات المجتمع الدولي.
جاء القدر الأعظم من معارضة تخفيف أعباء الديون من جانب الصين، ثاني أكبر دولة مانحة ثنائية. فهي تزعم أن الديون الخارجية المستحقة على البلدان المتوسطة والمنخفضة الدخل تظل منخفضة نسبيا، حيث تبلغ في المتوسط 40% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنحو 100% قبل إطلاق مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون في عام 1996. وعلى هذا فقد دفعت الصين في اتجاه إعادة جدولة الديون، كما حدث في وقت سابق من هذا العام مع اتفاق زامبيا الذي طال انتظاره.
كما قاوم المقرضون من القطاع الخاص التخفيف العميق لأعباء الديون، حتى مع استمرار عزوفهم عن توفير السيولة. أثناء أزمة الديون في أميركا اللاتينية في ثمانينيات القرن العشرين، عندما كانت السيولة تعتبر المشكلة وليس الإعسار، كان بوسع البنوك القليلة المشاركة في الأمر أن تتفق في أقل تقدير على إعادة الجدولة المنسقة. ولكن الآن، يعكس الإغلاق الشامل لسوق السندات مشكلة تتعلق بالعمل الجماعي والتي تميز بدرجة كبيرة حيازة السندات المفتتة.
برغم أنه من المفهوم اعتبار مسألة خفض الديون عملية مروعة، فلابد وأن يكون من الأسهل كثيرا بالنسبة للبلدان التي تقتصر مشكلتها على الافتقار إلى السيولة أن تبني جسرا إلى مستقبل أكثر استدامة ماليا. النبأ السار هنا هو أن قِـلة من البلدان فقط ينطبق عليها وصف “مُـعسِـرة” في الوقت الحالي. تشير تقديرات أخيرة إلى أن 25 دولة منخفضة ومتوسطة الدخل، منها 17 دولة في أفريقيا، تظل تحت عتبة الإعسار التي حددها صندوق النقد الدولي، لكنها تتجاوز عتبة السيولة (حيث تتراوح تكاليف خدمة الدين بين 12% إلى 15% من الإيرادات).
لكن الوضع سيزداد سوءا إذا لم تتمكن هذه البلدان من إعادة تمويل أصول ديونها المستحقة عندما تصل إلى موعد الاستحقاق. لنتأمل هنا حالة كينيا. شرعت كينيا في تنفيذ برنامج طموح لتثبيت الاستقرار والإصلاح، مدعومة بجهود ضخمة لتثبيت الاستقرار المالي بما يعادل 4% من الناتج المحلي الإجمالي، وبدعم سخي من صندوق النقد الدولي وبنوك التنمية المتعددة الأطراف. لكنها لديها سندات بقيمة 2 مليار دولار يستحق سدادها في عام 2024. وإذا لم تسمح أسواق رأس المالي العالمية بإعادة التمويل بحلول ذلك الوقت، فسوف يتطلب السداد نفقات مالية إضافية تعادل 1.8% من الناتج المحلي الإجمالي، وسوف يزيد هذا من خطر حدوث اضطرابات شعبية، كما حدث مؤخرا في الرد على زيادة الضرائب وارتفاع تكاليف المعيشة.
والبديل ــ التخلف عن السداد ــ غير جذاب بذات القدر، خاصة وأن دين كينيا الخارجي لا يتجاوز 38% من الدخل الوطني الإجمالي. للتغلب على هذه المعضلة، يقترح إعلان نيروبي بشأن تغير المناخ الصادر عن الاتحاد الأفريقي السماح للبلدان بإعادة جدولة الديون المستحقة قريبا لخلق الحيز المالي اللازم لتمكين سياسات “النمو الأخضر” الجديدة والإصلاحات، بتمويل من بنوك التنمية المتعددة الأطراف.
الواقع أن اقتراحنا الذي يقضي بإنشاء “ميثاق انتقالي” يساعد في تفعيل هذه الفكرة. في ظل قيادة مشتركة من جانب الأمم المتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، لن يقتصر هذا الاقتراح على دعم البلدان المعسرة التي تحتاج إلى خفض الديون المستحقة عليها، بل سيشمل أيضا البلدان التي تفتقر إلى السيولة والتي تحتاج إلى إعادة جدولة ديونها. وبوسع البلدان التي شهدت تحويلات صافية سلبية مع دائنين مهمين أن تختار الدخول في برنامج تعديل يؤجل التزامات ديونها في مقابل التعهد بالإصلاح. يتمثل الهدف من هذا في خلق القيمة من خلال التنسيق، على افتراض أن البلد قادر على الخروج من الدين عن طريق تحقيق النمو إذا جرى تزويده بالسيولة، وإذا اتبع السياسات الكفيلة بتمكينه من تحقيق النمو المستدام.
لكي يكون هذا الميثاق الانتقالي فَـعّـالا، فلابد أن يرتكز على برنامج تجديد وطني يشمل اتخاذ التدابير الضرورية لتقييد الميزانيات وتنفيذ الإصلاحات اللازمة للانتقال إلى مسار نمو جديد. سوف يتطلب هذا مزيدا من التمويل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، مع تمديد الشروط إلى ما يتجاوز برنامج صندوق النقد الدولي المعتاد الذي يمتد ثلاث سنوات. وينبغي للبلدان التي تستفيد من هذا الخيار أن تكون أول من يستفيد من زيادة تمويل صندوق النقد الدولي وبنوك التنمية المتعددة الأطراف، وهذا من شأنه أن يساعد بدوره في منع اندلاع أزمة ديون جهازية لن يسلم من أذاها أحد.
لتجنب تسرب الديون إلى دائنين آخرين، يجب أن تُـعاد جدولة بعض الديون أثناء فترة البرنامج. ولا ينبغي أن يتجاوز سعر الفائدة المعمول به معدل النمو المتوخى في إطار برنامج التجديد، حتى لا يتفاقم وضع الديون. يجب أن يكون هذا النهج مقبولا بشكل مسبق من قِـبَـل المجموعات الدائنة كافة، لكن الالتزام بإعادة جدولة القروض التي لا يمكن إعادة تمويلها يجب أن يُــفـرَض من قبل صندوق النقد الدولي من خلال التهديد بالإقراض على متأخرات.
أخيرا، في نهاية البرنامج، إذا تبين أن الدين الخارجي غير مستدام، فلابد من ابتكار برنامج لخفض الدين ــ كما هي الحال في إطار مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون. الواقع أن هذا الاحتمال يقلل من الاحتياج إلى خفض ديون البلدان المعسرة هامشيا مقدما، وفي ظل حالة شديدة من انعدام اليقين الاقتصادي العالمي.
إن العالم في احتياج ماس إلى تحقيق التقدم نحو مستقبل أكثر استدامة. وسوف يساعد النهج الذي نقترحه في سد الفجوة الكبرى بين تطلعاتنا وواقعنا، من خلال السماح لبلدان عديدة في العالم تفتقر إلى السيولة بالتأهب للتصدي للتحديات التي تنتظرنا. في غياب مثل هذه المبادرة، سوف يظل هدف حشد تريليونات الدولارات لتمكين جهود التنمية الرحيمة بالمناخ حلما بعيد المنال.