آراء اقتصادية

بنك الاحتياطي الفيدرالي وإنجازه الاستثنائي

برادفورد ديلونغ

 

بيركلي ــ ينقسم مراقبو السياسة النقدية حاليا إلى مجموعتين. ولكن ربما يتعين على الجانبين أن يتوقفا ويتأملا أين كنا قبل ثمانية عشر شهرا وأين أصبحنا الآن.

على أحد جانبي الانقسام يقف أولئك منا الذين ما زالوا يستسلمون لهوسهم الـمَـرَضي باختلال التوازن الكبير بين المعروض من المدخرات والطلب على الأموال اللازمة للاستثمار الحقيقي. كانت هذه هي الظروف التي وَطَّـدَت عشر سنوات من أسعار الفائدة عند الحد الأدنى الأقرب إلى الـصِـفر والركود المزمن (النمو المنخفض بسبب الطلب الكلي المنخفض بنيويا) بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008. ونظرا لغياب أي سبب جوهري يجعلنا نتوقع أن تكون الجائحة وما تلاها من إعادة الانفتاح الاقتصادي في وقت لاحق سببا في القضاء على اختلال التوازن هذا، فيترتب على ذلك أن يظل سعر الفائدة الحقيقي المحايد المتوازن (حيث لا تكون السياسة النقدية توسعية أو انكماشية) شديد الانخفاض: أو على وجه التحديد، حيث كان أثناء فترة الركود المزمن.

نستنتج من ذلك أيضا أن السياسات الحالية التي تنتهجها البنوك المركزية الكبرى تقييدية إلى حد كبير. من منظور المنتمين إلى المجموعة الأولى، يتمثل الخطر الأبرز في أن الإبقاء على أسعار الفائدة الاسمية عند مستواها الحالي قد يشعل شرارة ركود كبير، وهو ما من شأنه أن يعيدنا حتما إلى الركود المزمن الكامل، مع انخفاض أسعار الفائدة إلى الحد الأدنى الصِـفري أو بالقرب منه وانزلاق الاقتصادات إلى الكساد الشديد.

في المقابل، ترى المجموعة الثانية أن أسعار الأصول الحالية وأسعار الفائدة “طبيعية”، زاعمة أن هذه التدابير تتوافق مع توازن الاقتصاد الحالي. من هذا المنطلق، لا تُـعَـد سياسات البنوك المركزية الحالية تقييدية بدرجة كبيرة، بل إنها أقرب إلى الحياد. ويبدو أن أعضاء هذه المجموعة منشغلون بذكريات آرثر بيرنز. فبعد أن أصبح رئيسا لبنك الاحتياطي الفيدرالي في أوائل عام 1970، قرر بيرنز خفض سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية من أكثر من 9% إلى 4.5% بحلول نهاية العام. وقد تبين أن ذلك التصرف كان أحد أخطاء السياسة الاقتصادية الكبرى التي أفضت إلى التضخم في سبعينيات القرن العشرين.

تخشى هذه المجموعة الثانية أن يكرر الاحتياطي الفيدرالي الخطأ الذي ارتكبه بيرنز بخفض أسعار الفائدة في غير أوانه قبل استعادة الثقة الكاملة في التزامه بمرتكز التضخم المنخفض. ولهذا، يحذر الخبير الاقتصادي الحصيف المتمكن محمد عبد الله العريان من أنه “كلما استسلم الاحتياطي الفيدرالي لتوقعات المستثمرين بإجراء تخفيضات كبيرة ومبكرة في أسعار الفائدة في عام 2024 ــ بما في ذلك الاقتراب من التخفيضات الستة المقررة في العام المقبل ــ كلما ازدادت الضغوط من جانب الأسواق لحمله على اتخاذ موقف سياسي أكثر وداعة.

وعلى هذا فإن الخطر البارز الكبير يتلخص في ما يلي:

“… أن يضطر بنك الاحتياطي الفيدرالي، الذي يشعر بعدم الارتياح إزاء الانفصال بين توجيهاته السياسية المسبقة وتسعير السوق، إلى اتخاذ إجراءات سياسية ترضي الأسواق ولكن يتبين أنها غير متسقة في الأمد الأبعد مع تفويض البنك المركزي. لن يكون هذا تصرفا غير مسبوق. فقد حدث ذلك الأمر برمته في يناير/كانون الثاني 2019 مع تحول السياسة في الاتجاه المعاكس عندما كشف رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول عن لغة جديدة فتحت الباب أمام الاحتمال بأن تكون الخطوة التالية في تحديد أسعار الفائدة إلى الأدنى، بعد ستة أسابيع من إشعار البنك المركزي الأسواق بقدوم مزيد من الارتفاعات”.

أول رد فعل من جانبي تجاه هذه الحجة هو أن أقول: “ولكن مهلا: لقد سار التوقف المؤقت في يناير/كانون الثاني 2019 على ما يرام!” لنتذكر أن الاحتياطي الفيدرالي بحلول أغسطس/آب من عام 2019 كان يريد سعر فائدة أقل على الأموال الفيدرالية، وبالتالي بدأ في خفضه. ولو لم يتحول باول في الاتجاه المعاكس، ولو كانت أسعار الفائدة الطويلة الأجل في السوق والظروف المالية أشد تقييدا خلال النصف الأول من عام 2019، فربما كان بنك الاحتياطي الفيدرالي ليواجه في خريف عام 2019 مشكلة أشد صعوبة من تلك التي واجهها بالفعل.

بالعودة إلى الماضي، كنت في حيرة من أمري في عموم الأمر إزاء اللهجة المستخدمة في أغلب التعليقات على الاحتياطي الفيدرالي منذ أصبح جو بايدن رئيسا ثم بدأت عملية إعادة فتح الاقتصاد في أواخر أيام الجائحة. لقد تأخر بنك الاحتياطي الفيدرالي حقا في البدء في رفع أسعار الفائدة أثناء إعادة فتح الاقتصاد، لكن الأسباب التي دفعته إلى ذلك كانت وجيهة للغاية، ولم يترتب على تأخيره سوى أقل القليل من الجوانب السلبية.

عندما بدأ الاحتياطي الفيدرالي إحكام السياسة النقدية، كانت خطواته أسرع كثيرا وأبعد مما كنت أريد. ولكن تبين أن صناع السياسات في الاحتياطي الفيدرالي كانوا على حق، وكنت أنا على خطأ. بعد معاينة الأحداث، أستطيع أن أقول إنه من المنطقي إذا تحركت متأخرا، أن تندفع بقوة حتى تتمكن من اللحاق بالركب. وعلى الرغم من تحطم بعض الكيانات المالية الهشة ــ حيث سقطت ثلاثة بنوك كبرى لكنها كانت صغيرة بالقدر الكافي للسماح بإفلاسها ــ فإننا نعرف بالفعل كيف ننظف هذا النوع من الفوضى قبل أن يلحق الأذى بكيانات أخرى.

الآن، بينما يحاول الاحتياطي الفيدرالي إيلاج خيط في إبرة صغيرة للغاية، ربما يُـحـسِـن جميع المعلقين صُـنعا بأن يعترفوا بأن تنظيم عملية إعادة فتح سريعة وناجحة للغاية بعد الجائحة، يليها هبوط ناعم على مستوى الاقتصاد الكلي، ليس بالإنجاز الهين. إنها مهمة بالغة الصعوبة، وقد نفذها الاحتياطي الفيدرالي على أكمل وجه تقريبا حتى الآن. ولابد من تهنئة باول وزملائه. وأظن أن أحكامهم الحالية بشأن وضع راهن بالغ التعقيد تستحق احترامنا.

* جيه. برادفورد ديلونغ، أستاذ علوم الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وباحث مشارك لدى المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، ومؤلف كتاب التراخي نحو المدينة الفاضلة: تاريخ اقتصادي للقرن العشرين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى