آراء إقتصادية

«سيادة» على السحاب: هل يتجه العالم نحو الاستقلال الرقمي عن الولايات المتحدة؟

في نيسان الماضي، تعهد مدير عام شركة مايكروسوفت، براد سميث، بتحدي «أي حكومة» تطلب من شركته وقف خدماتها في دول معينة، ملمحًا لتهديدات إدارة ترامب ضمن حربه التجارية. إلا أن وعود سميث وُضعت على المحكّ بعد شهر واحد. ففي أيار الماضي، اكتشف رئيس المحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، وعدد من زملائه حظر مايكروسوفت الوصول لبريدهم الإلكتروني المستضاف على خوادمها. جاء هذا الحظر تنفيذًا لقرار ترامب بإدراج كريم خان وكل العاملين في المحكمة الجنائية الدولية على قائمة عقوبات يديرها مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع لوزارة التجارة الأمريكية.

لطالما استخدمت الولايات المتحدة قائمة عقوبات OFAC كسلاح لعزل الأفراد والشركات من النظام المالي العالمي، ومن خدمات شبكة الإنترنت العالمية، عبر توظيف نفوذ واحتكار الشركات الأمريكية لجوانب هامة ومؤثّرة من البنية التحتية للإنترنت، منها خدمات الاستضافة ومراكز البيانات والكوابل البحرية.[1] لكن هذه القائمة توسعت بعد السابع من أكتوبر، حيث نشطت إدارة ترامب باستهداف مؤسسات وأفراد عاملين على توثيق الإبادة وملاحقة جرائم الاحتلال الصهيوني.

فكما جمدت مايكروسوفت بريد موظفي المحكمة الدولية امتثالًا لعقوبات OFAC، جمدت كل من مايكروسوفت وأمازون وجوجل وميتا الحسابات الإلكترونية للعديد من المؤسسات الفلسطينية بعد أن أدرجتها الإدارة الأمريكية على قائمة OFAC، منها خمس مؤسسات فلسطينية، لاتهامات بدعمها حركتي حماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. في عام 2024 وحده، زاد عدد الأفراد والمؤسسات التي أدرجتها OFAC على قائمة «الأشخاص المصنفين بصفة خاصة» بنسبة 25% مقارنة بعام 2023. حتى المقررة الأممية لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، فرانسيسكا ألبانيز، لم تسلم من هذه القائمة بعد أن نشرت تقريرها «من اقتصاد الاحتلال، إلى اقتصاد الإبادة»، بذريعة علاقاتها مع المحكمة الجنائية الدولية.

مع تزايد محورية شبكة الإنترنت في البنى التحتية الاستراتيجية حول العالم، دق اقتصاديون وأكاديميون ناقوس الخطر منذ سنوات حول تداعيات تركز ملكية البنية التحتية للشبكة بيد عدد قليل من الشركات الخاصة الأمريكية، المحكومة بقوانين الولايات المتحدة. لكن أمام إغراء سهولة الحصول على خدمات الاستضافة والحوسبة السحابية وتدني أسعارها، لم تلق هذه الأصوات صدى لدى معظم حكومات العالم، إلا بعد أن قدمت تسريبات إدوارد سنودن سنة 2014 دليلًا على برامج تجسس واسعة وظفتها الحكومة الأمريكية، بالاعتماد على نفوذها في الشبكة عبر ملكية الشركات الأمريكية لمعظم البنية التحتية الحساسة المُشغلة للإنترنت. تصاعد حينها الخطاب الحكومي في أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، مناديًا بأهمية استقلال بنية الإنترنت الحساسة وفرض سيادة الدول عليها.

بعد العقوبات الواسعة التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا إبان حربها مع أوكرانيا، والحرب التجارية التي تشنها إدارة ترامب على دول العالم لترجيح كفّتها في موازين المدفوعات التجارية، بلغت الدعوات الرسمية لتحقيق «السيادة» و«الاستقلال» الرقمي أوجها، لتشمل طيفًا منتوعًا من الأصوات. على يسار هذه الدعوات مؤسسات حقوقية وأكاديمية تدعو لاسترجاع مُلكية البنية التحتية من الشركات الخاصة عبر بناء «بنية تحتية عامة» تديرها مؤسسات أهلية، وعلى يمينها حكومات دول تدعو إلى فرض «سيادتها» الرقمية لتضرب بها عدة عصافير بحجر واحد: تنمية اقتصادها وبسط نفوذها على اتصالات وبيانات شعوبها.

نحاول في هذا المقال رسم مشهد البنية التحتية للحوسبة السحابية، وهي أكثر الخدمات محورية في شبكة الإنترنت، وتتبع خطاب «السيادة» أو «الاستقلال» الرقمي الذي نمى باطراد في السنوات الأخيرة. فبالرغم من تصوير الشركات التقنية الكبرى للإنترنت على أنه «سحابة» تطفو فيها البيانات، إلا أن هذه السحابة تتجسد في مراكز بيانات وخوادم يمتلك معظمها عدد قليل جدًا من الشركات. وبعكس اللامادية التي تضفيها كلمة سحابة، فإن هذه البيانات مُرتهنة بتلك الخوادم ومراكز البيانات، التي تخضع في النهاية لمصالح الدول والشركات التي تُديرها. نحاول أيضا اكتشاف المساحات البديلة التي يمكن للمؤسسات الحقوقية أن تتجه إليها لتحقيق «استقلالها الرقمي»، في حده الأدنى على الأقل، لإدارة واستضافة وجودها الإلكتروني بدلًا من الاعتماد على الشركات الأمريكية.

منظومة الاستضافة والحوسبة السحابية

لرسم صورة عن منظومة الشركات التي تسيطر على البنية التحتية الخاصة باستضافة المواقع والخدمات، يمكننا نأخذ مثالًا عن سلسلة المتطلبات التي تحتاجها مؤسسة ما من أجل تأسيس وجود إلكتروني لها، مثل إنشاء موقع على الويب وتشغيل بريد إلكتروني وخدمة تخزين سحابي.

من أجل إنشاء موقع على الويب، تحتاج المؤسسة أولًا لاستئجار اسم نطاق (domain name)، من مسجِّل لأسماء نطاقات الإنترنت (Registrar)، وثم إيجاد مساحة لاستضافة صفحات، وخدمة بريد إلكتروني، وربما مساحة لتخزين قواعد بياناتها وملفاتها الداخلية. كما قد تختار إنشاء صفحات على منصات التواصل الاجتماعي حيث الكثافة الجماهيرية في إنترنت اليوم.

حتّى منتصف العقد اﻷول من الألفية، كان يمكن تدبير كل تلك المتطلبات عبر شركات صغيرة، يوجد أغلبها في الولايات المتّحدة و بعضها في أوروبا، لا تسيطر أي منها على نسبة حاكمة من السوق، وبتكلفة معقولة في دول الشمال الصناعي، لكنها كانت كبيرة نسبيًا في بقية العالم. لكن على مدى السنوات، تغير سوق متطلبات الحضور السيبراني، وظهرت أنماط جديدة من الخدمات الشاملة، في ما صار يُعرف باسم الخدمات السحابية، لتصبح أكثر فأكثر تركزًا واحتكارًا من قبل الشركات الكبرى. في نهاية 2024، امتلكت شركتان أمريكيتان مجتمعتين ثلث حصص سوق أسماء النطاقات في العالم التي وصل عددها إلى 360 مليون اسم نطاق، وهما جودادي (GoDaddy) ونيم تشيب (Namecheap)، فيما تملك أكبر ست شركات أمريكية في هذا المجال قرابة نصف أسماء النطاقات المسجلة عالميًا.

أشهر هذه النطاقات كانت تلك التي بدأت مع الإنترنت نفسه، مثل com. وorg. التي ظلت تديرها شركة أمريكية خاصة تسمى Network Solutions بموجب عقد خاص مع الحكومة الأمريكية، حتّى تأسيس منظمة الآيكان سنة 1998 لتنتقل إدارة النطاقات إليها، قبل أن تجري خصخصة القطاع ليتحول إلى سوق مربح. شهد هذا القطاع تغيرات على مدار السنوات الخمس الأخيرة، حيث لوحظ ارتفاع تسجيل أسماء نطاقات في دول آسيا وأفريقيا، وخاصة تلك تحت أسماء النطاقات العليا الدولية، مثل .cn الدال على الصين، و.in الدال على الهند، za. الدال على جنوب أفريقيا، مقابل انخفاض نمو نطاقات com. من بين دوافع هذا النمو هو سن الحكومات في تلك الدول قوانين واستراتيجيات تشجع أسواق النطاقات المحلية وتوطين خدمات الاستضافة ومخازن البيانات على أراضيها، وتشجع القطاعين الخاص والعام المحليين على تسجيل نطاقات تنتهي بأسماء الدول.

على إثر العقوبات الأمريكية، فقدت العديد من المؤسسات الحقوقية في العالم التي تم إدراجها على قائمة عقوبات OFAC التحكم في أسماء نطاقاتها التي كانت قد سجّلتها لدى شركات في الولايات المتحدة. ويخوض العديد منها معركة مع هؤلاء المسجلين لفك الحظر على اسم النطاق حتى تستطيع أن تنقل ملكيته إلى شركات خارج الولايات المتحدة.

بعد اسم النطاق، تحتاج المؤسسة لتوفير مساحة استضافة لموقعها وبياناتها وبريدها الإلكتروني أرشيفها. في أوائل توسع الإنترنت، كانت الشركات والمؤسسات تنشئ وتُدير خوادم خاصة بها لغرض الاستضافة. أما اليوم، فمثلما تسيطر شركات في الولايات المتحدة على سوق النطاقات، باتت أمازون ومايكروسوفت وجوجل تسيطر مجتمعة على ما يقارب 70% من سوق الحوسبة السحابية. أما الدول التي فُرضت عليها العقوبات، فكانت سباقة في بناء بنية استضافة حوسبة سحابية محلية، مثل الصين الذي تتصدر فيها شركات علي بابا وهواوي وتينسنت حصص سوق الحوسبة المحلي الصيني (بنسب 33%، و18%، و10% على التوالي). وفي السنوات الأخيرة، نمت حصة شركة علي بابا لـ4% من سوق الحوسبة العالمي نظرًا لتقديمها خدمات استضافة ونطاقات إقليميًا في آسيا.

وكما في أسماء النطاقات، جمدت شركات الحوسبة السحابية الأمريكية حسابات الأفراد والمؤسسات والدول التي تم إدراجها على قائمة OFAC. تضطر المؤسسات الخاضعة للعقوبات في بلدان لا تقع عليها عقوبات تجارية، اللجوء لمزودي خدمة حوسبة سحابية خارج الولايات المتحدة لمتابعة أعمالها، مع أن العديد منهم فقد القدرة على الوصول إلى نسخ الاحتياط التي كان هذه الشركات تخزنها لمواقعهم وقواعد بياناتهم. بينما تداركت بعض المؤسسات خطر إدراجها على قائمة العقوبات، باستئجارها استباقيًا لأسماء نطاقات وتخزين سحابي من شركات خارج الولايات المتحدة.

من الجدير بالذكر أن تواجد مزود خدمة الحوسبة السحابية خارج الولايات المتحدة لا يعني بالضرورة أنه لن تطبق قرارات العقوبات الأمريكية عليه، خاصة إن كان لدى المزود مكاتب أو بنى تحتية في الولايات المتحدة. إذ يخضع الأمر لسياسة الاستخدام التي توضح من خلالها شروط إزالة المحتوى أو إيقاف الخدمة عن عملاء معينين. فمثلًا، قررت شركة توكاوز (Tucows) الكندية الأمريكية الاستجابة لرسالة من مؤسسة «محامون بريطانيون من أجل إسرائيل» طالبت بإيقاف حساب مؤسسة الضمير الفلسطينية، نظرًا لوجود مكتب وخوادم للشركة في الولايات المتحدة. كما يمكن أن يتخذ مزودو خدمة آخرون قرارات بتجميد حسابات عملائهم دون أمر محكمة إن وجدوا وفقًا لتقييمهم الشخصي بأنهم يستضيفون محتوى قد يدعم الإرهاب أو يبث الكراهية. في المقابل، يخوض بعض مزودي الخدمة في أوروبا معارك في المحاكم المحلية ضد تنفيذ قرارات إزالة المحتوى أو وقف الخدمات بتهم مثل الإرهاب أو معاداة السامية، كما تفعل شركة «1984» الآيسلندية، رفضًا لإزالة موقع «The Mapping Project»، إثر مقاضاة مؤسسة صهيونية لها.

نقاش متصاعد عالميًا

شكلت تسريبات سنودن نقطة فارقة في ثقة المؤسسات الحقوقية الدولية والمحلية والحكومات معًا ببنية الإنترنت التحتية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة، وولدت ردود فعل تمحورت حول نقد تمركز هذه البنية التحتية في إطار أمني يسمح تجسس الحكومات على بعضها البعض. كان من أبرز ردود الأفعال إعلان رئيسة البرازيل آنذاك، ديلما روسيف، بناء كابل بيانات بحري بين البرازيل والبرتغال لا يمر بالولايات المتحدة، سمي EllaLink وأنجز عام 2021، لتأمين بيانات واتصالات الدولة ومواطنيها بعد أن اتضح أنها كانت ضمن رؤساء الدول الذين خضعوا تجسس الولايات المتحدة حسب التسريبات. أما الاتحاد الأوروبي، فسنّ عام 2016 قانون حماية البيانات الذي أجبر الشركات العالمية على وضع ضوابط لاستخدام بيانات المواطنين الأوروبيين ومعالجتها خارج حدود الدول الأوروبية بإذن قانوني.

دفعت برامج التجسس السرية، وقدرة الولايات المتحدة على طرد شعوب بأكملها من منظومة الإنترنت، العديد من الدول في آسيا وأوروبا حتى تلك التي الصديقة للولايات المتحدة، لسن السياسات وإطلاق مشاريع لبناء بنى استضافة تحتية تسعى لتحقيق سيادة أكبر على اتصالاتها وبيانات مواطنيها، عبر قوانين تُجبر الشركات الدولية المقدمة لخدمات الحوسبة السحابية استضافة بيانات مواطنيها في مراكز بيانات محلية تخضع للنفوذ القانوني للدول، كما فعلت فيتنام، وسنغافورة، أو عبر الاتفاق مع شركات أجنبية لبناء سحابة وطنية كما فعلت ماليزيا. لكن هذه السياسات لم تعنِ دائمًا الاستقلال عن الشركات الأمريكية المُقدمة لهذه الخدمات، بقدر ما هدفت إلى توليد الوظائف محليًا، كما في حالة ماليزيا.

أما في أوروبا، وبالرغم من أن «الاستقلال الرقمي» كان نقطة انطلاق نقاشات برلمان الاتحاد الأوروبي الخاصة بتطوير سياسة أوروبا للبيانات عام 2020، فقد تلمس الاتحاد خطر سيطرة أمازون ومايكروسوفت وجوجل على 70% من سوق الحوسبة السحابية داخل القارة بعد أن وقع ترامب قرارًا إداريًا مطلع السنة الجارية، يوضح الأسس التنفيذية لقانون CLOUD الذي أقره عام 2018. يسمح هذا القانون للجهات التنفيذية في الولايات المتحدة بالنفاذ -عبر أمر محكمة- لمراكز بيانات خارج الولايات المتحدة إن كان تملكها شركات أمريكية، ما يتعارض مع الضوابط التي وضعها الاتحاد الأوروبي عبر اللائحة الأوروبية لحماية البيانات (GDPR) لمعالجة الشركات الأجنبية لبيانات الأوروبيين المستضافة في مراكزها. نتيجة لذلك، سارعت مايكروسوفت وجوجل وأمازون لتطوير سياسات داخلية تضمن سيادة الدول المستضيفة مراكز بياناتها على بياناتها الوطنية. لكن لاحقًا، اعترف مدراء مايكروسوفت أمام البرلمان الفرنسي بعدم إمكانية الشركة ضمان سيادة فرنسا -أو أي دولة في الاتحاد الأوروبي تباعًا- على بياناتها الوطنية أو بيانات مواطنيها المخزنة في مراكز بيانات تابعة للشركة في فرنسا إن طلبت الحكومة الأمريكية النفاذ إليها عبر أمر محكمة. أما في بريطانيا، فأقر أكثر من 50% من قادة شركات تقنية برغبتهم في التعامل مع مزودي خدمات محلية لا في الولايات المتحدة.

تظهر اليوم نقاشات جدية في الاتحاد الأوروبي حول تبني استراتيجيات سيادة رقمية لا بهدف حماية بيانات مواطنيها فحسب، بل أيضًا اللحاق بسباق الذكاء الاصطناعي ما بين الولايات المتحدة والصين. بالإضافة إلى سياسة «الاقتصاد الرقمي الأوروبي» التي تمنح أفضلية لمزودي خدمة في أوروبا في العطاءات الحكومية، وصلت المطالبات بـ«تحرير أوروبا من الحصار الرقمي» إلى الدعوة لبناء خطة للسيطرة على جميع طبقات البنية التحتية، بدءًا من توطين تصنيع الـ«الشرائح الإلكترونية» إلى بناء مراكز بيانات محلية، وبنية تحتية للاستضافة.

نحو بنية تحتية عامة للحوسبة السحابية؟

لكن في مساعي تفكيك تمركز ملكية البنية التحتية الحساسة، تثير بعض المؤسسات الحقوقية والمؤسسات المعنية بحكومة الإنترنت مخاوف إزاء منح قدر أكبر من «السيادة» والنفوذ للحكومات المحلية على بيانات المواطنين واتصالاتهم ومواقعهم الإلكترونية، خاصة في الدول التي تفرض رقابة عالية على الإنترنت والإعلام وتدير برامج تجسس لا تخضع للمحاسبة على بيانات مواطنيها. ضمن مجموعة تسمى «التحالف الديمقراطي البيئي للسيادة الرقمية»، يدعم عدد من المؤسسات والأكاديميين والمحامين والحقوقيين خارطة طريق لـ«إعادة استملاك مفهوم السيادة الرقمية» وإخراجه من إطار فرض «السيادة» التي خدمت تاريخيًا المصالح الاقتصادية والسياسية للطبقة الحاكمة وشكلت إطارًا لتهرب الحكومات من المحاسبة والشفافية في الحكم.

نقطة البداية هي إعادة تعريف البنية التحتية المُشغلة للحوسبة السحابية «كمشروع اقتصادي وطني يخدم المصلحة العامة للشعوب والمجتمعات المختلفة ويوزع عوائده الاقتصادية على الشركات الصغرى المحلية». وفق خارطة الطريق هذه، يمكن تحقيق الاستقلال الرقمي ببناء «بنية تحتية عامة» للاستضافة تحكمها مؤسسات مجتمع مدني أو مؤسسات دولية (اقتداءً بحوكمة شبكات الاتصالات وخدمات البريد العالمي)، والاستثمار في البحوث المفتوحة التي تقدم حلولًا لبناء المعرفة العامة على الإنترنت بما يخدم المجتمع، بدلًا من أن تخدم المصالح الربحية لشركات معدودة على الأصابع، ووضع قيود وآليات محاسبة لتفكيك أدوات الرقابة الحكومية على بيانات مواطنيها.

تظهر اليوم أيضًا حركات تعمل على مستوى التوعية العامة تستهدف المؤسسات الحقوقية والشركات الصغيرة وتطرح بدائل لبرامج وخدمات لشركات التقنية الكبرى. في العام الجاري، انطلقت حملة «انهض ضد الشركات التقنية الكبرى» (Rise Against Big Tech)، التي تدعو للتفكير للانفكاك عن خدمات وأدوات الشركات الكبرى التي ساهمت في رفع «مخاطر التغير المناخي، وتزايد عسكرة البيانات، وتمكين الشرطة». كما تدعو للتعريف بمزودي خدمة استضافة تتوافق قيمهم مع قيم «التعاون والشفافية والمُساواة»، بالإضافة للرجوع إلى حلول الاستضافة الذاتية لبعض الأدوات المفتوحة المصدر على خوادمها، مثل برامج التواصل اليومية أو VPN. كما تطرح بعض المبادرات «بديلًا» لشركات التواصل الاجتماعي، يعتمد على بُنية استضافة لامركزية تتواصل فيها الشبكات الاجتماعية مع بعضها البعض بشكل مباشرة، في تجمع يسمى Fediverse.

قد يكون تحقيق الاستقلال الكامل من مقدمي الخدمة في الولايات المتحدة الشركات الأمريكية المقدمة للخدمات امتيازًا لا تملك ثمنه معظم المؤسسات الحقوقية، وخاصة في منطقتنا العربية. لكن في الوقت نفسه، أصبح الاعتماد على مقدمي خدمات في الولايات المتحدة، خاصة بالنسبة للمؤسسات المناصرة للقضية الفلسطينية، خطرًا وجوديًا على المستوى الرقمي. لذا، ليس هناك أفضل من اللحظة السياسية الراهنة في منطقتنا العربية لخوض نقاشات جدية في أوساط هذه المؤسسات الحقوقية وبدء التحرك نحو تحقيق «استقلالها الرقمي» باستخدام أدوات مفتوحة المصدر ومُدارة ذاتيًا.

لكن إن كان هنالك شيء واحد عملي يمكن للمؤسسات الحقوقية البدء به هو التخلي عن مقدمي خدمات النطاقات والاستضافة والبريد الإلكتروني في الولايات المتحدة وإيجاد بدائل من خارجها. بين الاعتماد التام على مقدمي خدمات الولايات المتحدة والاستقلال التام، هناك مساحات يمكن استكشافها لتحقيق شيء من الاستقلال التدريجي، إلى أن يأتي اليوم الذي تظهر فيه مبادرات تقدم بنية تحتية تحكمها منظومة دولية.

راجع الحقوقي التقني أحمد غربية هذا المقال وساهم في تطوير بعض أفكاره.

زر الذهاب إلى الأعلى