آراء إقتصادية

الذكاء الاصطناعي والانتخابات الأميركية: كيف تعاد صياغة العقول بالبيانات؟

د. مروة بنت سلمان آل صلاح*

في مشهد ما بعد الانتخابات الأميركية، لم يعد الحدث يقاس بعدد الأصوات أو بتبدل الوجوه، بل بكم البيانات التي تحركت، وبالخوارزميات التي اشتعلت في الخلفية، ترصد وتفسر وتعيد تشكيل الوعي الجمعي بصمت رقمي محكم. لم تعد الديمقراطية فعلا بشريا صرفا، بل أصبحت فضاء رقميا تتقاطع فيه السياسة مع الرياضيات والبرمجة، حتى غدا السؤال الأعمق: من الذي يصنع القرار فعلا؟ أهو المواطن الذي يصوت، أم الخوارزمية التي ترسم له طريق الرأي من دون أن يشعر؟

لقد تحولت الحملات الانتخابية من معارك شعارات إلى صراعات بيانات. لم يعد السياسي يخاطب الجمهور بالخطابة، بل بالخوارزمية. فالذكاء الاصطناعي يرصد اهتمامات الفرد، تفاعلاته، ولغته الانفعالية على الشاشة، ليقدم له الخطاب السياسي الذي يناسبه كما لو كان إعلانا صمم خصيصا له. وبينما يظن الناخب أنه يختار بحرية، يكون قراره قد صيغ مسبقا في مختبر خفي للبيانات، عبر حسابات دقيقة تعرفه أكثر مما يعرف نفسه.

إن التحول من الديمقراطية التقليدية إلى “ديمقراطية الخوارزميات” يفرض أسئلة أخلاقية عميقة حول معنى الحرية ذاته. فعندما تبرمج الأنظمة لتعرض على كل شخص ما يوافق ميوله، يصبح العالم مرآة مغلقة تعيد له صدى أفكاره، فينكمش التنوع وتتلاشى المساحة التي وجد فيها الحوار أساسا. عندها لا تكون الديمقراطية ممارسة للاختيار، بل انعكاسا مكررا لما تقرره الخوارزميات مسبقا. وكلما ازدادت البيانات دقة، تقلصت المسافة بين الإقناع والتوجيه، وبين الحرية والتنبؤ المبرمج.
ومع ذلك، لا ينبغي النظر إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه خصما للإنسان. فالقوة التي تهدد الديمقراطية قادرة أيضا على ترميمها. إذ يمكن للأنظمة التحليلية نفسها أن تراقب الإنفاق الانتخابي لحظة بلحظة، وتكشف شبكات التضليل، وتمنح الصحافة والمجتمع المدني أدوات نوعية للرقابة. بل إن بعض المؤسسات باتت توظف الذكاء الاصطناعي لصياغة سياسات أكثر عدلا، مستندة إلى تحليل احتياجات المواطنين وتحديد المناطق المهمشة. وهنا يتحول الذكاء الاصطناعي من أداة نفوذ إلى وسيلة تمكين، ومن سلاح للتأثير إلى منظار للعدالة.

لكن هذا التوازن لا يبنى بالصدفة. فحين تدار الحملات السياسية بأسلوب تسويقي بحت، يختزل المواطن إلى رقم في قاعدة بيانات، وتغدو السياسة مشروعا تسويقيا لا شأن له بالقيم. الخطر الحقيقي ليس في أن تسيطر الآلة، بل في أن يتنازل الإنسان عن وعيه طوعا، حين يعتقد أن السيطرة التقنية قدر لا يقاوم. فكل سلطة مبرمجة تحتاج إلى بوصلة أخلاقية تمنعها من تحويل الإنسان إلى مادة في معادلة نفوذ.

الانتخابات الأميركية الأخيرة مثلت ذروة هذا التحول. فنتائج الصناديق لم تكن وحدها التي تحدد المنتصر، بل الخوارزميات التي سبقتها بأشهر، تصنع المزاج العام وتوجه السلوك الانتخابي عبر محتوى مولد بالذكاء الاصطناعي وفيديوهات وصور يصعب التمييز بينها وبين الحقيقة. وتشير دراسات أميركية حديثة إلى أن أكثر من 72 % من الناخبين تعرضوا لمحتوى توليدي ذكي، وأن واحدا من كل ثلاثة لم يتمكن من التفريق بين الحقيقي والمصنوع رقميا – أرقام كفيلة بإعادة تعريف مفهوم “الحقيقة” في عصر الخوارزميات.

وإذا كان الغرب يعيش هذا التحدي في قمة تطوره التقني، فإن العالم العربي يقف على مفترق أكثر حساسية. فغياب التشريعات الرقمية وتفاوت الوعي التقني يجعلان المشهد عرضة للتأثير الموجه. غير أن الفرصة تكمن في البدء بوعي جديد؛ بناء منظومة سياسية رقمية تستند إلى الأخلاق قبل البرمجة، وإلى المشاركة قبل الاستهلاك. فالذكاء الاصطناعي ليس قدرا محتوما، بل مرآة لذكاء مستخدميه، يعيد إليهم بقدر ما يزرعون فيه من قيم.

وفي الأردن، يبرز نموذج لافت في كيفية دمج التقنية بالإنسانية. فالمبادرات الملكية في التحول الرقمي ركزت على ترسيخ ثقافة التحقق والمساءلة، لا على التقنية وحدها. ومع بلوغ عدد مستخدمي الإنترنت في المملكة نحو 10.7 مليون -أي أكثر من 92 % من السكان مع مطلع العام الحالي- أصبحت البيانات مرآة دقيقة لنبض المجتمع. وبدأت أنظمة التحليل الذكي تستخدم لفهم توجهات المواطنين في الوقت الحقيقي، مما أتاح لصانعي القرار صياغة سياسات تستند إلى واقع رقمي حي، لا إلى تخمينات إدارية. إنها تجربة تؤكد أن الحداثة الحقيقية لا تقاس بالسرعة، بل بقدرة الدولة على موازنة التقنية بالقيم.
وفي هذا السياق، تبرز مسؤولية المرأة والقيادات الفكرية العربية في صياغة رؤية إنسانية للذكاء الاصطناعي. فحين تغيب التقنية روحها، يصبح الفكر الإنساني هو القادر على إضفاء المعنى عليها. نحن بحاجة إلى من يطرح الأسئلة التي تتجاوز الإبهار: كيف ندخل الذكاء الاصطناعي في إدارة القرار من دون أن نفقد إنسانيتنا؟ وكيف نصنع مدنا ذكية تعيد الإنسان إلى المركز لا إلى الهامش؟ تلك الأسئلة هي التي ستحدد مستقبلنا أكثر من أي تقدم تقني آخر.

في التجربة الأميركية، كان الذكاء الاصطناعي أداة للنفوذ. أما في التجربة القادمة، فبإمكانه أن يكون أداة للنهضة. فالتاريخ لا يكتب بالآلات، بل بالعقول التي تعرف كيف توجهها. ومع تسارع التحول نحو عالم تقاس فيه القوة بالبيانات، سيبقى الوعي هو السلاح الأصدق. إن الخطر ليس أن تتفوق الآلة في الحساب، بل أن يتنازل الإنسان عن حقه في التفكير. وعندما ندرك أن الذكاء الاصطناعي ليس منافسا لنا بل انعكاس لذكائنا الجمعي، سنعرف كيف نحكمه لا كيف نخافه.

فالسياسة المقبلة لن تكون سباق أحزاب وأصوات، بل سباق وعي وبصيرة. والقيادة الحقيقية ليست في امتلاك أدوات التحليل، بل في امتلاك البوصلة الأخلاقية التي ترشدها. وعندما ينهض الإنسان بقيمه قبل برمجته، ويقود التقنية بعقله لا بانبهاره، عندها فقط يصبح العصر الرقمي عصرا إنسانيا بامتياز – كما تبرهن التجربة الأردنية أن التقنية لا تكتمل إلا بإنسان يعرف كيف يوجهها نحو النهضة لا النفوذ.

*مطور للمدن الذكية والاقتصاد الرقمي

alghad

زر الذهاب إلى الأعلى